هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
تتجاوز المشكلة في سوريا الصراعات الدائرة في السويداء أو المناورات الجيوسياسية الإسرائيلية. تكمن المشكلة الأساسية في الفراغ الواسع الناجم عن غياب السلطة والرؤية داخل الدولة السورية. هذا الفراغ هو أحد أعراض الصراع الدائر، ومحفز لمزيد من عدم الاستقرار.
لقد امتدت الاضطرابات والسخط، التي اندلعت سابقًا في المنطقة الساحلية، إلى الشمال الشرقي، ومؤخرًا إلى الجنوب الغربي. ويُعدّ كل تفجر للاضطرابات تذكيرًا صارخًا بأن البلاد ستستمر في الانزلاق إلى الفوضى دون رؤية موحدة للمستقبل. ومع تنافس الفصائل المختلفة على السلطة والنفوذ، تُصبح الساحة مهيأة للاستغلال من قبل جهات خارجية وجماعات متطرفة، راغبة كل الحرص في ملء الفراغ الذي خلّفته الدولة المتعثرة.
إن أعمال العنف الأخيرة، التي أججتها تسجيلات صوتية زادت من حدة التوترات بين السنة والدروز، تُبرز عدم استقرار المنطقة. وقد جددت الاشتباكات المخاوف والشكوك، مؤكدةً على التدخل الأجنبي، ولا سيما دور إسرائيل، إذ طلب أحد الوجهاء الدروز الدعم الإسرائيلي، وشنت إسرائيل غارات جوية، إحداها قرب القصر الرئاسي في دمشق. وكانت هذه الضربة بمثابة تحذير وحماية للدروز، مُظهرةً هشاشة توازن القوى في هذه المنطقة المضطربة.
في قلب هذا الوضع تفاعلٌ معقد: وجود الانقسامات الطائفية والتدخل الأجنبي عاملان مترابطان يُسهمان في استمرار عدم الاستقرار. أعادت الحكومة السورية، بدعم من ميليشيات درزية مثل رجال الكرامة، فرض سيطرتها على بعض المناطق، إلا أن العنف يُقوّض الاستقرار النسبي. لا يزال انعدام الثقة قائمًا بين أبناء المجتمع رغم دعوات شخصيات نافذة مثل المفتي العام أسامة الرفاعي إلى الوحدة. إن تركيز الحكومة الانتقالية على السيطرة على الأراضي من خلال صفقات مؤقتة، بدلًا من احتضان المجتمع بأكمله، يُنذر بخلق حلول مؤقتة لا تُعالج الأسباب الجذرية للصراع.
غالبًا ما تُشبه الحكومة السورية رجال الإطفاء، فلا تستجيب إلا عند اندلاع الأزمات. وقد أصبح هذا النهج التفاعلي مألوفًا جدًا، إذ عادةً ما تتفاعل الحكومة مع النزاعات الناشئة بدلًا من معالجة القضايا الأساسية التي تُؤججها. على سبيل المثال، عندما تتصاعد التوترات بين السنة والدروز، قد تُرسل الحكومة قوات لقمع العنف؛ إلا أن هذه التدخلات غالبًا ما تكون قصيرة الأجل وتفشل في معالجة الأسباب الجذرية للاضطرابات.
هذا النمط يُديم دوامة الفوضى، إذ لا تزال الحكومة تُحاول احتواء الأضرار، فتُخمد الحرائق بدلًا من تهيئة بيئة مستدامة للسلام والاستقرار. إن غياب البصيرة والتفاعل الصادق مع جميع المجتمعات المحلية لا يؤدي إلا إلى مزيد من الاستياء والشعور بالخذلان بين المتضررين من النزاع.
في مجتمعٍ مُمزّقٍ بفعل سنواتٍ من الحرب، تُقوّض هذه العقلية المُتشبّثة بالصراع أي جهودٍ تُبذَل نحو المصالحة. فبدلاً من تعزيز الحوار والتفاهم، غالبًا ما تُفاقم تصرفات الحكومة التوترات القائمة. على سبيل المثال، لا تُسهم التدخلات العسكرية المُتقطّعة الهادفة إلى استعادة النظام في بناء الثقة بين المجتمعات أو في تمهيد الطريق لاستراتيجيةٍ شاملةٍ تُعالج مظالم جميع الفئات.
تُجسّد الحرب الأهلية السورية، التي اندلعت عام 2011، استغلال المظالم الطائفية. فقد أدى اعتماد نظام الأسد على دعم العلويين، مع إقصائه المجتمعات السنية، إلى استياء وانتفاضات شعبية. واستغلت جماعات متطرفة، مثل داعش، هذه الاضطرابات، مُفاقمة الصراع الطائفي باستهدافها كلاً من المجتمعات السنية والشيعية. كما زاد التدخل الأجنبي من حدة التوترات. ويتناقض الدعم العسكري الإيراني والروسي للأسد مع تمويل السعودية وتركيا وقطر لجماعات المعارضة، مما يُحوّل سوريا إلى ساحة صراع دولي مدفوع بعوامل محلية وجيوسياسية.
زادت الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة من تعقيد الوضع. فالغارة الجوية قرب القصر الرئاسي في 2 مايو/أيار، والتي وُصفت بأنها إجراء وقائي للدروز، تُبرز أيضًا المصالح الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة. إضافةً إلى ذلك، تُشير محادثات خفض التوتر الجارية بين إسرائيل وتركيا إلى اتفاق عملي غير مُعلن يسمح لكلا البلدين بتنفيذ عمليات عسكرية داخل سوريا. وبينما تهدف هذه المناقشات إلى منع الاشتباكات غير المقصودة، إلا أنها قد تُضفي شرعية أيضًا على التدخلات العسكرية التي تُفاقم التوترات الطائفية.
تواجه الحكومة السورية المؤقتة تحديًا كبيرًا: إرساء سلطة الدولة الشرعية من خلال حوار صادق مع جميع الطوائف، بما في ذلك الدروز والسنة والأكراد والعلويين. تتطلب هذه الفترة أكثر من مجرد مناورات سياسية؛ بل تتطلب مشاركة حقيقية لنزع سلاح الفصائل وبناء الثقة بين مختلف الفئات. ينبغي أن يستند المسار المستقبلي إلى تفاعل حقيقي، لأن الاتفاقات السطحية لن تكون كافية. ومن المرجح أن تستمر دوامة العنف وانعدام الثقة دون هذا التفاعل الحاسم.
لمعالجة هذه المشكلة، ينبغي على الحكومة الانخراط في حوار مع جميع الطوائف، مع الاعتراف بالمظالم التاريخية، والعمل على إيجاد إطار سياسي أكثر شمولاً. يُعدّ التواصل مع قادة مختلف الفئات، بما في ذلك الدروز والسُنّة والعلويين وغيرها من الطوائف المهمّشة، أمرًا أساسيًا لبناء الثقة وتعزيز المسؤولية المشتركة عن مستقبل سوريا. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إعطاء الأولوية لنزع سلاح الميليشيات المحلية. ويجب على الحكومة تنفيذ استراتيجيات تشجع هذه الجماعات على الانتقال من الفصائل المسلحة إلى المنظمات المجتمعية. تتضمن هذه العملية معالجة القضايا الأساسية التي دفعت المجتمعات إلى تشكيل الميليشيات، مثل التنمية الاقتصادية، وخلق فرص العمل، والحصول على التعليم. ومن خلال معالجة الأسباب الجذرية لانعدام الأمن، يمكن للحكومة تهيئة بيئة مواتية لبناء الثقة.
للمجتمع الدولي دورٌ حيويٌّ أيضاً في دعم مسيرة سوريا نحو الاستقرار. ينبغي على الدول ذات النفوذ الإقليمي إعطاء الأولوية للجهود الدبلوماسية التي تُعزز الحوار والمصالحة، بدلاً من تفاقم الانقسامات من خلال الدعم العسكري. فالمساعدات الإنسانية والتنموية، والتعافي الاقتصادي، وتسهيل الحوار بين مختلف المجتمعات، كلها عوامل تُمهّد الطريق لسلام دائم.
لنفترض أن الحكومة السورية لم تغتنم الفرصة لإعادة ترسيخ مكانتها كسلطة شرعية تُولي الأولوية للحوار والشمولية والحلول طويلة الأمد. في هذه الحالة، سنشهد حتمًا تصاعدًا في الصراع. ستتعمق دائرة العنف، مع بقاء المجتمعات منقسمة وعرضة للتلاعب من قِبل الساعين لاستغلال مظالمها. لم تكن المخاطر يومًا أعلى مما هي عليه الآن.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.
0 تعليق