حكاية طويلة وثقت الارتباط العميق بين سلطنة عمان والبحر، شخصوها سفنها التي شقت الطرق البحرية منذ قرون، تحمل في جعبتها قصصا، وطموحات رست في موانئ كثيرة، ليغدو البحر أشبه بهوية حضارية وقوة اقتصادية، وثبات ثقافي مرتبط باسم عمان على مر العصور.
أساطيل بحرية جابت سواحل أفريقيا وآسيا، تركت بصمتها وأثبتت حضورها، وتركت حيّزا في ذاكرة التاريخ البحري، الذي سطرته الأقلام العمانية، لترسم خارطة الملاحة البحرية، ولعلّ أبرز الأعلام العمانية التي بقت كشاهد على قوة وإنجاز التاريخ البحري لعمان هو الملاح العماني "أحمد بن ماجد" الذي لقب بأسد البحر، تاركا حكاياته البحرية في مخطوطات بقت هي اللسان الذي يصدح بمكانة وحضور جزء من عوالم ثقافية وحضارية تحتفي بسلطنة عمان ومنجزاتها في تاريخ لا يمحى.
لم يكن "أحمد بن ماجد" مجرد بحار، بل كان شاعرا وعالما ومرشدا للبحارة، بل وأصبح مرجعا هاما في فنون البحار، وقد أدرج اسمه في منظمة اليونسكو في عام 2021، وذلك ضمن برنامج اليونسكو للذكرى الخمسينية والمئوية للأحداث التاريخية والشخصيات المؤثرة في العالم.
ولعلّ الاحتفاء بإدراج مخطوطة "النونية الكبرى" للملاح أحمد بن ماجد في برنامج "ذاكرة العالم" ضمن منظمة اليونسكو، هو تأكيد وترسيخ لإنجاز وتأكيد على الأهمية التاريخية للإنجاز البحري العماني.
مخطوطة لعبور عباب البحار ..
وقال الدكتور يونس بن جميل النعماني- مدير دائرة قطاع الثقافة باللجنة الوطنية العُمانية للتربية والثقافة والعلوم: "تعد مخطوطة النونية الكبرى للبحَّار العُماني أحمد بن ماجد من المخطوطات الاستثنائية ذات القيمة والبعد العالمي؛ نظرا لما تمثله من إرث إنساني، يخدم البشرية قاطبة، قدم فيها ابن ماجد استكشافات علمية، ساعدت البحارة في عبور عُباب البحر والمحيطات، كما تعد من أهم الوثائق التاريخية في علوم الملاحة والبحار، وقيمتها العالمية تكمن في توثيقها لمعلومات دقيقة عن حركة السفن والممرات وطرق الشحن الدولية قديمًا؛ مما أثرى فهمنا للتجارة البحرية والجغرافيا والفلك في القرن الخامس عشر الميلادي، ويمثل إدراجها في السجل العالمي لبرنامج ذاكرة العالم، كثاني مخطوطة عُمانية تدرج في هذا البرنامج، إنجازا عُمانيا وشهادة عالمية تفوق العُمانيين في العلوم البحرية والملاحية".
وأضاف: "هذه المنظومة الشعرية -التي تسمى أيضا قصيدة الخيل- وسعّت المعرفة الجغرافية بتقسيم الأرض إلى 14 منطقة، شمال وجنوب الكرة الأرضية، وهو إنجاز رائد في عصره".
وتحدث النعماني حول البحار العماني أحمد بن ماجد فقال: "مما يدل على علم وتفوق أحمد بن ماجد في علم الملاحة البحرية، أن الكثير من البحارة إلى وقت قريب كانوا يقرؤون الفاتحة على روحه قبل ركوب البحر، فقد خلّف إرثا كبيرا شمل تطوير البوصلة وتأليف أكثر من 40 عملا، جعلها كنزا ثقافيا عالميا يربط بين حضارات الشرق والغرب. والدليل الآخر هو اهتمام المستشرقين بمخطوطاته النادرة في علم البحار والمحيطات أمثال روبرت كوينلاند، ويليام بورن، والروسي ثيودور شوموفسكي الذي كتب أطروحته في مرحلة الدكتوراة عن أحمد بن ماجد، حيث حفظت آثاره في مكتبات عربية وأجنبية".
وحول ا يشكله إدراج النونية الكبرى في منظمة اليونسكو قال النعماني: "هذا الإدراج يمثل قيمة ثقافية لسلطنة عُمان، نظير الاهتمام الذي سيناله التراث الثقافي العُماني على مستوى العالم، ويدخل ذلك في ما يسمى بالدبلوماسية الثقافية أو القوة الناعمة التي تركز عليها كثير من دول العالم؛ لإبراز تاريخها وتراثها الثقافي، والتعريف به، لتعزيز قيم السلام والتقارب بين الثقافات، واحترام التنوع الثقافي بجميع أشكاله ومضامينه".
مشيرا إلى أن إدراج المزيد من الأعمال التاريخية والثقافية سواء في هذا البرنامج أو في غيره من برامج وقوائم اليونسكو، مهم للغاية لما له من أثر عميق في التنمية المستدامة وتعزيز الهُوية الوطنية وقيم الانتماء.
القديم والحديث من قواعد علم الملاحة ..
وقال الشيخ حمود بن حمد بن جويد الغيلاني- مؤرخ مختص بالتاريخ البحري العماني والخليجي: أن النجاح الذي حققته السلطنة ممثلة في اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم في تسجيل المخطوط العماني «النونية الكبرى» للمعلم شهاب الدين أحمد بن ماجد السعدي في برنامج سجل ذاكرة العالم بمنظمة اليونسكو من خلال فريق العمل الوطني لسجل ذاكرة العالم. يعد هذا التسجيل نجاحا ضمن توثيق عدد من المخطوطات العمانية لحفظها أولا، وفي مجالها تعتبر المخطوطة الثانية، فقد سبقتها مخطوطة " معدن الأسرار في علوم البحار" للنوخذا ناصر بن علي الخضوري، ويأتي هذا الاهتمام الذي تؤليه اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم لإبراز الدور الثقافي والعلمي لسلطنة عمان في مختلف المجالات.
وأشار الغيلاني إلى أن مخطوطة" النونية الكبرى" تُعد إحدى أهم المخطوطات العُمانية في مجال الملاحة وعلوم البحار؛ فهي تُوثّق معلومات قيّمة، فأهميتها ليست فقط في احتوائها على بعض قصائد ابن ماجد التي كانت مفقودة من قبل، وإنما في احتوائها أيضاً على القديم والحديث من قواعد علم الملاحة عند العمانيين خصوصا والعرب عموما، كما أنها تحدد لنا الفترة التي بدأ فيها البحارة العمانيون.
وأضاف: "إن النسخة الحالية من هذه المخطوطة لناسخ بحار تشير إلى ان الناسخ متمكن من هذا العلم مما ساعد في بروز تعليقاته الجانبية على المخطوطة، وهذا دليل على أن البحارة العمانيين استمروا في أبحاثهم المتعلقة بعلوم البحار وهو ما تؤكده نحو ستة عشر مخطوطة بحرية عمانية ظهرت بعد احمد بن ماجد في القرن اللاحقة لوفاته".
وحول أهمية المخطوطة قال الغيلاني: "تُعدّ المخطوطة إرثا إنسانيّا؛ إذ تقدّم لنا فكرا علميا تطبيقيا مارسه البحارة العمانيون عبر مسار عمان الحضاري منذ بدء العصر الحديث".
اهتمام عماني بعلم الملاحة البحرية ..
وأشار الدكتور حميد النوفلي إلى اهتمام العمانيين بعلم الملاحة البحرية، وقال: "كانت تجارب العمانيين في الابحار مجالا خصبا للتجريب والتدوين بعد ذلك في مصنفاتهم الخاصة بالملاحة الفلكية، والتي رفدوا من خلالها الحضارة العربية الإسلامية بصنوف المعرفة في شتى مجالات العلم، ومن ذلك مصنفاتهم الكثيرة في علوم البحار بما فيها المخطوطات والرحمانيات؛ حيث أولوها اهتماما خاصا من البحث والتدوين، اعتمادا على التجارب الذاتية والمشاهدات الشخصية أثناء قيادتهم للسفن الشراعية، ومن خلال زياراتهم لموانئ وخلجان البلدان التي تناولوها بالتوثيق في كتبهم، فما من ميناء زاروه إلا وقد حددوا موقعه بالقياس الدقيق".
وأضاف النوفلي: "من أبرز الربابنة الذين اهتموا بعلم الملاحة الربان المعلم شهاب الدين أحمد بن ماجد السعدي العماني، وله العديد من المؤلفات والأراجيز البحرية أهمها كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد وكتاب حاوية الاختصار في أصول علم البحار وأرجوزة النونية الكبرى وتسمى قصيدة الخيل وتحتوي على ١٤٠ بيتًا ، وفيها جملة قياسات، والمقصود بالقياس ارتفاع النجم عن خط الأفق أي المسافة بين خط الأفق والنجم، وفيه يستطيع الرُبَّان أن يعرف موقع المكان الذي يقصده، ويحدد ما قطعه من المسافة عرضا".
وبمناسبة الإعلان عن إدراج مخطوطة "النونية الكبرى" التي أدرجت في سجل ذاكرة العالم باليونسكو قال الدكتور حميد: "إن الأهميت العلمية للمخطوطة تكمن في أنها تناولت قواعد العلوم البحرية، وقيادة السفن باستخدام الآلات البحرية وحساباتها الدقيقة، ووصف البوصلة وأجزائها، واستخراج مسار السفينة وخطوط الطول والعرض فيه، وجداول الميل وذكر مطالع النجوم، ورسم أشكال بعض الموانئ حسبما رأى بعينه، كما أنها أوردت أسماء الكثير من الموانئ وقد هجر بعضها وتغيرت أحوالها بسبب العوامل المناخية والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وأضاف: "مخطوطة " النونية الكبرى" تأليف الملاحّ شهاب الدين أحمد بن ماجد، سنة النسخ 1157هـ".
تجدر الإشارة إلى أن الملاَّح العُماني شهاب الدين أحمد بن ماجد بن محمد السعدي ولد في عُمان عام 1421م، وقال الشيخ حمود الغيلاني: "يرى بعض الباحثين أن وفاته حدثت نحو عام 1500م، وتذكر الدكتورة صباح الشيخلي في بحثها المقدم بندوة راس الخيمة التاريخية الثالثة أن أحمد بن ماجد بيّن مزايا مسقط وأهميتها في جذب التجار، مسترشدة بما ذكره (تيبتس Tibbetts) الى القول:".. بأن أحمد بن ماجد قد أندفع في الكتابة بشكل واسع عن مسقط والسواحل العمانية بوصفه مواطنا عُمانيا)".
0 تعليق