نظام التجارة العالمي ينهار من الداخل

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ترجمة - نهى مصطفى -

أدت الرسوم الجمركية الشاملة التي أعلنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الثاني من أبريل، وما رافقها من تأجيلات وردود فعل انتقامية، إلى حالة كبيرة من عدم اليقين على المستوى العالمي. تتركز الأنظار على التداعيات الفوضوية قصيرة المدى لهذه السياسات: تقلبات عنيفة في أسواق الأسهم، مخاوف بشأن سوق السندات الأمريكية، هواجس من ركود اقتصادي، وتكهنات حول كيفية تفاوض الدول المختلفة أو استجاباتها.

لكن، وبغض النظر عمّا سيحدث على المدى القريب، فإن أمرًا واحدًا بات جليًا: سياسات ترامب تعكس تحولًا في نظام التجارة ورأس المال العالمي. كان لا بد من إحداث تغيير جذري بطريقة أو بأخرى لمعالجة الاختلالات في الاقتصاد العالمي التي طال أمدها، فالتوترات التجارية الحالية هي نتيجة فجوة بين متطلبات الاقتصادات الوطنية ومتطلبات النظام العالمي. ورغم أن النظام العالمي يستفيد من ارتفاع الأجور، الذي يدفع الطلب على المنتجات في مختلف الأماكن، فإن التوترات تنشأ حين تتمكن بعض الدول من تحقيق نمو أسرع من خلال دعم قطاعها الصناعي على حساب نمو الأجور - كأن تعمل، بشكل مباشر أو غير مباشر، على كبح النمو دخل الأسر مقارنة بنمو إنتاجية العمال. والنتيجة نظام تجاري عالمي تتنافس فيه الدول عبر الإبقاء على الأجور منخفضة، مما يضر بها في نهاية المطاف.

من غير المحتمل أن تعالج التعريفات الجمركية التي أعلنها ترامب المشكلة الاقتصادية الحالية، حيث يجب على السياسات التجارية الأمريكية أن تتعامل مع اختلالات المدخرات في العالم أو تقليل دور واشنطن في امتصاص تلك الاختلالات. التعريفات الثنائية لا تحل هذه المشاكل. بما أن النظام القائم لم يعد مستدامًا، من الأفضل أن يبدأ صانعو السياسات في تصميم بديل معقول. الحل الأمثل قد يكون اتفاقية تجارية عالمية جديدة بين الدول التي تلتزم بمعالجة اختلالاتها الداخلية بدلاً من تصديرها عبر الفوائض التجارية، مما يؤدي إلى تشكيل اتحاد جمركي على غرار ما اقترحه كينز في مؤتمر بريتون وودز عام 1944. هذا الاتحاد سيلزم الدول بالحفاظ على توازن تقريبي بين الصادرات والواردات، مع فرض قيود على الفوائض التجارية للدول غير الموقعة. يمكن توسيع هذا الاتحاد تدريجيًا ليشمل العالم كله، مما يؤدي إلى رفع الأجور عالميًا وتعزيز النمو الاقتصادي.

لفهم ما يعوق نظام التجارة العالمي، من المفيد النظر في كيفية تأثير الأجور على الاقتصاد المحلي. فارتفاع الأجور يعود عادةً بالنفع على الاقتصاد، إذ يؤدي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات، مما يشجع الشركات على الاستثمار في وسائل إنتاج أكثر كفاءة. وينتج عن ذلك حلقة إيجابية، حيث يدفع ارتفاع الطلب إلى تحسين الإنتاجية، مما يتيح بدوره زيادات جديدة في الأجور.

لكن على مستوى الشركات الفردية، تكون الحوافز مختلفة. إذ يمكن للشركة أن تزيد أرباحها من خلال خفض الأجور. المشكلة هنا أن ما قد يبدو مجديًا لشركة واحدة، قد يكون ضارًا للاقتصاد الأوسع، لأن خفض الأجور يقلّص القدرة الشرائية، وبالتالي يؤثر سلبًا على أرباح الشركات الأخرى. وفي اقتصاد يعتمد فيه الاستثمار على حجم الطلب، فإن خفض الأجور على نطاق واسع إما يؤدي إلى زيادة الدين لتعويض الطلب المفقود، أو إلى تراجع الإنتاج والأرباح. هذه الظاهرة، المعروفة أحيانًا بـ«مفارقة التكاليف» التي طرحها الاقتصادي ميشال كاليكي، تنطبق على الشركات كما تنطبق على الدول.

في عالم شديد الترابط والعولمة، حيث تنتقل الصناعات بسهولة من مكان إلى آخر، تصبح كلفة الأيدي العاملة عاملاً حاسمًا. فحين تنقل الشركات إنتاجها إلى بلدان تتسم بانخفاض الأجور مقارنة بإنتاجية العمال، يمكنها تقليل التكاليف وزيادة القدرة التنافسية. غير أن خفض الأجور يؤدي في الوقت نفسه إلى تراجع الاستهلاك المحلي. وداخل أي اقتصاد، تظهر فجوة بين الإنتاج والاستهلاك لا بد من موازنتها؛ إما بزيادة الاستثمار المحلي (الذي قد يفاقم المشكلة)، أو برفع الأجور، أو بخفض الإنتاج.

أما في الاقتصاد المعولم، فهناك بديل آخر: تحقيق فائض تجاري. حيث تصدّر الدولة هذا الفائض في الإنتاج إلى دول أخرى، فتُنقل آثار ضعف الاستهلاك المحلي إلى شركائها التجاريين. ولهذا، وصفت الخبيرة الاقتصادية جوان روبنسون عام 1937 الفوائض التجارية الناتجة عن قمع الطلب المحلي بأنها شكل من أشكال «إفقار الجار».

وهذا ما دفع كينز إلى معارضة نظام تجاري يسمح بتحقيق فوائض تجارية دائمة في مؤتمر بريتون وودز عام 1944. فقد رأى أن مثل هذا النظام يشجع الدول على التوسع الصناعي عبر كبح الطلب المحلي، مما يؤدي إلى ضغط دائم على الأجور. وأوضح أن الدول التي تنجح في هذه الاستراتيجية ستكون الرابحة في السوق العالمية، على حساب شركائها التجاريين الذين تتقلص حصتهم من التصنيع.

بدلًا من قبول نظام تجاري عالمي يقوم على الفوائض الدائمة وعدم التوازن، دعا كينز إلى أن تتعلم الدول كيف تحقق التوظيف الكامل داخليًا من خلال سياساتها الاقتصادية المحلية. وكان يطمح إلى عالم لا تُضطر فيه دولة إلى التضحية برفاهية مواطنيها لصالح قدرتها التنافسية، ولا تكون فيه المصالح الاقتصادية لدولة ما على حساب جيرانها.

في ذلك الوقت، كانت سياسات «إفقار الجار» تؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة في دول العجز التجاري، حيث تتسبب الصادرات الفائضة من دول أخرى في انهيار قطاعاتها الصناعية وتسريح العمال.

لكن مع انهيار نظام بريتون وودز في السبعينيات، طورت الحكومات أدوات جديدة لتخفيف أثر العجز التجاري على البطالة، من خلال خفض أسعار الفائدة وتشجيع الاقتراض الاستهلاكي، أو عبر إنفاق عام غير مرتبط بتحقيق توازن في الميزانية. وقد أدّى ذلك، خصوصًا في الولايات المتحدة، إلى التخفيف من آثار العجز التجاري المستمر على الأيدي العاملة، لكن بثمن ارتفاع ديون الأسر وميزانية الدولة.

ورغم ذلك، لا تزال العلاقة بين الاختلالات الاقتصادية داخل الدولة وبين اختلالات شركائها التجاريين معقدة، وغالبًا ما تفلت من الفهم الدقيق. ففي الاقتصاد العالمي، لا يمكن لأي دولة أن تحقّق اختلالًا داخليًا (كالفائض الإنتاجي) دون أن يظهر أثره خارجيًا لدى دول أخرى (كعجز تجاري أو صناعي). ويعني هذا أن الدول التي تتحكم في اقتصاداتها الداخلية تستطيع - بقصد أو دون قصد - فرض اختلالاتها على شركائها التجاريين.

وهذا ما أوضحه الاقتصادي داني رودريك، الذي رأى أن على الدول في النظام المعولم أن تختار بين تكامل اقتصادي عالمي أوسع أو احتفاظ أكبر بسيادتها الاقتصادية. ففي الرؤية التقليدية للعولمة، تُفترض مشاركة عادلة بين الدول: تتخلى جميعها عن جزء مماثل من سيادتها الداخلية لصالح التجارة العالمية. ويؤدي هذا التوازن، نظريًا، إلى تصحيح تلقائي للاختلالات؛ فإذا راكمت دولة فائضًا تجاريًا كبيرًا، فسترتفع أجورها أو عملتها، مما يقلل من تنافسية صادراتها ويعيد التوازن بمرور الوقت.

لكن الواقع مختلف. فبعض الدول، مثل الصين، تحتفظ بسيطرة صارمة على سياساتها الاقتصادية الداخلية، من خلال ضبط الأجور، وتنظيم الاستثمار، وإدارة حركة رأس المال، ما يمنع تصحيح الاختلالات الداخلية. وبذلك، تُلقي هذه الدول باختلالاتها على عاتق شركائها التجاريين، الذين لا يملكون الأدوات ذاتها لحماية اقتصاداتهم، خصوصًا في ظل نظم السوق الحرة المفتوحة.

وهكذا، فإن الدول التي تتبع سياسات صناعية توسعية دون السماح بآثارها التلقائية - كارتفاع الأجور أو العملة - لا تدفع فقط نحو توسيع صناعاتها، بل تدفع شركاءها إلى انكماش صناعي مقابل. وهذا هو تحديدًا نمط العولمة الذي حذّر منه كينز وروبنسون: عولمة تُستخدم فيها أدوات الدولة لتوسيع اقتصاد واحد على حساب الاقتصاد العالمي ككل، في إعادة إنتاج لما سمّاه كاليكي «الاستراتيجية التوسعية محليًا والانكماشية خارجيًا».

لذا، إذا أراد العالم أن تزدهر العولمة حقًا، فعليه أن يعود إلى نموذج من العولمة تُصدّر فيه الدول لتستورد، وتُعالَج فيه اختلالات الإنتاج والاستهلاك والاستثمار على المستوى المحلي، لا أن تُفرض على الشركاء التجاريين.

بعبارة أخرى، يحتاج العالم إلى نظام تجاري عالمي جديد، تتوافق فيه الدول على ضبط اختلالاتها الداخلية، ومواءمة الطلب المحلي مع العرض المحلي. عندها فقط، لن تُضطر دولة إلى تحمّل أعباء اختلالات التوازن الداخلي لدول أخرى.

وأفضل وسيلة لتحقيق هذا النوع من العولمة هي إنشاء اتحاد جمركي جديد، على غرار ما اقترحه كينز خلال مفاوضات بريتون وودز. يتعين على الدول الأعضاء في هذا الاتحاد الالتزام بالحفاظ على توازن تجاري عام فيما بينها، مع فرض عقوبات على الأعضاء الذين يخلّون بهذه القواعد. كما سيُقام هذا الاتحاد على أسس تحمي أعضائه من الاختلالات التي قد تفرضها دول خارجية، عبر إقامة حواجز تجارية ضد الدول التي ترفض الانضمام أو لا تلتزم بالقواعد.

ولن يُطلب من التجارة أن تكون متوازنة على أساس ثنائي بين كل دولتين، بل بين كل دولة وبقية أعضاء الاتحاد مجتمعة. وسيتوجب على الأعضاء إدارة اقتصاداتهم بما يضمن ألّا تُترجَم سياساتهم المحلية إلى أعباء خارجية تُلقى على شركائهم التجاريين. وفي ظل هذا النظام، يمكن لكل دولة أن تتبنى المسار التنموي الذي تراه مناسبًا، شرط ألا يكون على حساب الآخرين عبر تصدير اختلالاتها الاقتصادية.

إلا أن بوسع المنظمين أن يبدأوا بتشكيل نواة لهذا الاتحاد عبر مجموعة من الدول التي تمثل النسبة الأكبر من عجز الميزان التجاري العالمي - مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وكندا، والمكسيك، والهند.

هذه الدول لديها كل الحوافز للانضمام، وإذا فعلت، فسيصعب على بقية الدول البقاء خارجه لفترة طويلة.

فإذا رفضت الدول ذات العجز أن تظل تتحمل عجزًا دائمًا، فلن يكون بمقدور الدول ذات الفائض أن تُبقي على فوائضها إلى الأبد. وبدلًا من ذلك، ستُجبر على توسيع استهلاكها المحلي أو زيادة استثماراتها الداخلية - وكلا الخيارين يعزز الطلب العالمي - أو ستضطر إلى تقليص فائض إنتاجها المحلي.

إذا نجح العالم في إنشاء مثل هذا الاتحاد الجمركي، فإن التجارة الدولية «ستتوقف،» كما كتب كينز، «عن كونها وسيلة يائسة للحفاظ على الوظائف المحلية من خلال فرض المبيعات في الأسواق الخارجية وتقييد المشتريات». عندها لن يكون هدف الدول من تعظيم صادراتها هو تصدير تكلفة دعم التصنيع المحلي، بل سيكون الهدف الأسمى هو تعظيم الواردات وتحسين رفاهية الأسر.

ولكن إذا تعذّر تحقيق هذا الاتحاد الجمركي، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو ما حذّرت منه جوان روبنسون: لعبة «إفقار الجار»، حيث تسعى كل دولة إلى «تحميل الآخرين نصيبًا أكبر من العبء»، كما كتبت.

فبمجرد أن تنجح دولة في تعزيز ميزانها التجاري على حساب شركائها، ترد الدول الأخرى باتخاذ إجراءات مماثلة، مما يؤدي في النهاية إلى تراجع مستمر في إجمالي حجم التجارة الدولية. ويبدو أن العالم يسير بالفعل في هذا الاتجاه. فقد أدت هذه الديناميكيات إلى فرض إدارة ترامب تعريفات جمركية، وإلى تصاعد شكاوى الشعوب في مختلف الدول بشأن التجارة. وإذا لم يقوم صانعو السياسات بتغيير الحوافز التي تُحرك اقتصاداتهم، فإن التوترات التجارية العالمية ستستمر، وربما تتفاقم.

مايكل بيتيس أستاذ أمريكي في المالية بكلية جوانجهوا للإدارة بجامعة بكين، وزميل أول غير مقيم في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي.

نشر المقال في Foreign Affairs

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق