تنشأ هذه الأقنعة مبكرا، حين يتلقى الطفل رسائل غير مباشرة تقول إن التعبير عن الذات قد يجلب السخرية أو العقاب. يبدأ الفرد حينها بتعديل سلوكه وفقا لما يُنتظَر منه لا وفقا لما يشعر به، ويكتسب تدريجيا قدرة عالية على التكيف الظاهري. تتشكل صورة اجتماعية، قد تكون مثالية أو صلبة أو هادئة، لكنها في حقيقتها ليست أكثر من درع أو قناع يخفي الذات الحقيقية المقموعة التي لم تُمنَح مساحة آمنة للظهور.
تتعمق هذه الصورة بمرور الوقت نتيجة للمقارنة المستمرة بالآخرين. فهو يرى كل يوم أن النجاح يقاس بمعايير خارجية، والقيمة الذاتية تحدد من خلال مدى شبهه واختلافه عن من حوله. وهنا يبدأ التناقض بين ما يفعله وما يؤمن به، فيصاب الفرد بحالة من التوتر الداخلي تُعرف بالتنافر المعرفي، بسبب إرهاقه الشديد من محاولات التوفيق بين ما يظهره للناس وما يدور في داخله، بين ما يريده وما تريده أسرته ومعلموه ومجتمعه.
هذا التوتر لا يبقى في داخله فقط، بل يمتد إلى العلاقات المحيطة به. تصبح مجاملاته أكثر من تعبيره، وقراراته مبنية على توقعات الآخرين أكثر من قناعاته. فيعجز عن قول «لا» رغم شعوره بالرفض، ويظهر الحماس لما لا يؤمن به للدخول إلى دائرة المرضي عنهم ودائرة القبول الاجتماعي. ومع الوقت، بالتدريج تبدأ الصلة بين ذاته وما يعيش تتآكل، فيغلب عليه التشتت والشعور بعدم الرضا، وتهدر طاقته.
التخفيف من هذا التناقض يبدأ حين تتوفر بيئة تمنح القبول دون شروط، وتشجع على التعبير الصادق دون عقوبة. وتدريبه على اكتساب مهارة الحزم في المواقف، وتكوين وعي صادق بالدوافع، يسهم في بناء صورة أقرب للواقع، وأقل تصنعا.
ختاما، حين يتمكن الفرد من التخلي عن الأقنعة، ويواجه العالم بملامحه الحقيقية، وتتحول علاقاته إلى مساحات آمنة، وتصبح قراراته أكثر صدقا، وحياته أكثر اتساقا مع ما يؤمن به فعلا.
aziz33@
0 تعليق