تخضع الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) لأجندات استقطابية، معيبة ماليًا، وذات دوافع سياسية، وجذور أيديولوجية. فالرؤية المؤيدة للحوكمة البيئية والاجتماعية تعدها ضرورة أخلاقية، بينما الرؤية المناهضة لها ترفضها باعتبارها أداة ضغط على الشركات لتعلي أولوية القضايا الاجتماعية والبيئية على حساب الربح.
والحق أنه على مدى أكثر من خمسين عاما، مورست الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في بيئة تتسم بالذاتية، وضعف جودة البيانات، والتغير المستمر في التشريعات، وغياب الأطر المعيارية. ونتيجة لذلك، ظلت الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية محظورة إلى حد كبير على المتخصصين الماليين، وتعد أشبه بحركة تقوم على دوافع الموالاة والمناصرة أكثر من كونها نظامًا ماليا مهيكلا.
فطالما نظر مديرو الصناديق إلى الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية باعتبار أنها محض معيار تنظيمي أكثر منها أداة استراتيجية لخلق القيمة. وبالنسبة للعديد من الشركات، كانت الاستدامة مجرد فكرة ثانوية ـ غايتها الأساسية هي تلبية متطلبات الإفصاح والحد من مخاطر السمعة. وابتعد متخصصو عمليات الاندماج والاستحواذ (M&A) إلى حد كبير عن الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، معتبرين أنها مفهوم مجرد ذو آثار مالية غير واضحة، أكثر من كونها محركًا ملموسًا للقيمة. فعوملت الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية باعتبارها مسعى جماليا ـ وممارسة معنوية تتعلق بالسمعة وسرد القصص الملهمة. ولحسن الحظ أن تلك الأيام قد ولت أخيرا
ثلاثة أسباب لاعتبار الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية الآن أداة استراتيجية
1. شركات العالم الآن تعمل أخيرا على قدم المساواة
في الوقت الذي استغرق فيه إنشاء معايير عالمية للمحاسبة أكثر من قرن ـ وذلك بسبب بطء التقدم والاختلافات الإقليمية والمفاوضات المعقدة بين الجهات التنظيمية والحكومات والشركات ـ ففي غضون ثلاثة عقود فقط ظهر معيار عالمي لإعداد تقارير الاستدامة. واعتبارا من العام الحالي، سوف تصدر الشركات في أكثر من ستين دولة، من أستراليا إلى زامبيا، تدريجيًا تقارير الاستدامة الأولى الخاصة بها بموجب معيارين موحدين هما (IFRS S1) و(IFRS S2) فها هو عصر التباينات يوشك على الانتهاء. فحتى شركة تيسلا، المملوكة لإيلون ماسك، سوف تلتزم الآن بإطار موحد في إعداد التقارير يتبعه منافسوها، بما يضمن التزام جميع الشركات بلغة واحدة عندما تحكي قصصها مع الاستدامة.
2 ـ وكالات التصنيف الائتماني تراعي الآن عامل الحوكمة البيئية والاجتماعية
يزداد النظر الآن إلى تجاهل مخاطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية باعتباره سوء تقدير ائتماني. فها هي وكالات التصنيف الائتماني ـ التي تعود أصولها إلى تصنيفات جون مودي عام 1909 للسكك الحديدية الأمريكية، والتي كان تركيزها ينصب في السابق على الأساسيات المالية فقط ـ توسع منهجياتها لتعترف بالتأثير المباشر لعوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (من قبيل فساد الشركات أو ارتفاع منسوب مياه البحر الناجم عن تغير المناخ) على مخاطر التخلف عن سداد الائتمان. وعندما حصلت منظمة ترامب على تصنيف من موديز، تم تقييمها أيضا بموجب إطار شامل لمعايير الحوكمة البيئية والاجتماعية، وهذا دليل واضح على أنه حتى الشركات التي قاومت تاريخيا سرديات الاستدامة باتت الآن تخضع للتقييم من خلال هذه العدسة المالية الناشئة.
٣. لعلنا عثرنا أخيرا على الكأس المقدسة للتحليل المالي القائم على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية
لقد أطلق مشروع أبرايت Upright، ومقره هلسنكي، منصة رائدة مصممة لقياس أثر مخاطر الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية وفرصها ـ من قبيل تغير المناخ والتلوث وسلوكيات الأعمال ـ على المقاييس المالية الرئيسية، ومنها الإيرادات، والأرباح التشغيلية، والأرباح قبل الضرائب، وأصول الشركة، والتزاماتها، وحقوق الملكية، وحركة التدفقات النقدية. ويعتمد مشروع أبرايت المتعلق بالبيانات على ثلاثمائة مليون مقال علمي، ويغطي خمسين ألف شركة، منها ما يمتلكه أو يستثمر فيه وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك، ووزيرة التعليم ليندا ماكماهون، ووزير الخزانة سكوت بيسنت. ولا تقتصر مخاطر وفرص الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية على الجوانب النوعية فحسب، ولكنها تحسب دولاريا أيضا.
لماذا لا يمكننا الاستمرار في تجاهل الحوكمة البيئية والاجتماعية؟
يزداد النظر إلى تجاهل عوامل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في قرارات الاندماج والاستحواذ باعتبار أنه تصرف غير مسؤول من وجهة النظر المالية. واقع الأمر أن استطلاعا حديثا أجرته شركة (KPMG) قد أظهر أن أربعة من كل خمسة من مبرمي الصفقات في العالم يقولون إن اعتبارات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية مدرجة على أجنداتهم الخاصة بصفقات الاندماج والاستحواذ، حيث يواجه 45% منهم آثارًا جوهرية على الصفقة من جراء نتائج العناية الواجبة الجوهرية المتعلقة بالحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (مع تعرض أكثر من نصف هذه الصفقات لـ«عوائق تحول دون إتمامها»).
وينطبق المنطق نفسه على تسعير الشركات. فقد تطورت منهجيات التقييم منذ فترة طويلة، حيث دمجت تدريجيًا عوامل كانت هامشية في السابق ـ من قبيل تحليل ثقة المستهلك، وتكاليف الامتثال التنظيمي، واتجاهات الصحة العامة، والمخاطر الجيوسياسية ومخاطر سلسلة التوريد ـ في النماذج المالية. وتتبع الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية المسار نفسه، وسيتم الاعتراف بها عما قريب باعتبارها عنصرا أساسيا في تقييم المخاطر وتوقع التدفقات النقدية، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من ممارسات التقييم القياسية.
عما قريب سوف يصبح تجاهل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية أمرا لا يتمايز عن سوء الإدارة المالية في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة وخارجها. ومن المفارقات أنه في الوقت الذي وصلت فيه مبادئ الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية إلى المرحلة التي طال انتظارها من التهيؤ للتبني على نطاق واسع، فإن المزاج السياسي يشرع في الابتعاد عنها، مما يبرز التوتر الشديد بين الاستراتيجية المالية السليمة والمقاومة الإيديولوجية.
رودريغو تافاريس مؤسس ورئيس مجموعة جرانيتو - مدونة المنتدى الاقتصادي العالمي
0 تعليق