خلال السنوات القليلة الماضية، انتقل الذكاء الاصطناعي من كونه مجالًا أكاديميًا إلى صناعة ضخمة تبلغ قيمتها السوقية عدة تريليونات من الدولارات، مدفوعة برهانات ضخمة من رؤوس الأموال الاستثمارية، فقد ارتفعت القيمة السوقية للشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي المدرجة في مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بما يقارب 12 تريليون دولار أمريكي منذ عام 2022.
ورغم ذلك، لا وجود للذكاء الاصطناعي من دون طاقة، وفي الوقت نفسه، يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث تحولات جذرية في قطاع الطاقة، من خلال تحسينات كتوفير إمدادات كهرباء ميسورة التكلفة، وموثوقة، ومستدامة، والدول التي ستتمكن من توفير الطاقة اللازمة بسرعة وعلى نطاق واسع ستكون الأفضل موقعًا لجني فوائد هذه التكنولوجيا.
في المقابل، يستهلك مركز بيانات نموذجي مخصص للذكاء الاصطناعي كمية كهرباء توازي استهلاك مائة ألف منزل، بينما المراكز الكبرى التي يتم بناؤها حاليًا ستستهلك طاقة تعادل عشرين ضعف هذا الرقم، ومع ذلك، لا يزال هناك نقص في فهم المخاطر والآثار المترتبة على تعمق الترابط بين الطاقة والذكاء الاصطناعي. وانطلاقًا من سجلها القوي في رصد واستكشاف القضايا الناشئة في قطاع الطاقة، نشرت وكالة الطاقة الدولية دراسة جديدة سعيًا لسد هذه الفجوة، تتضمن أحدث البيانات في هذا المجال نشارككم أهمها في هذا المقال.
وقود الذكاء الاصطناعي
تستهلك مراكز البيانات المخصصة للذكاء الاصطناعي كهرباء بحجم مماثل لمصانع كثيفة الاستهلاك مثل مصاهر الألمنيوم، لكنها أكثر تركّزًا جغرافيًا، حيث توجد نحو نصف طاقة مراكز البيانات في الولايات المتحدة ضمن خمسة تجمعات إقليمية فقط، مما يجعل القطاع يشكل نسبًا معتبرة من استهلاك الكهرباء في الأسواق المحلية.
وقد تضاعف الاستثمار العالمي في مراكز البيانات تقريبًا منذ عام 2022، ليصل إلى نصف تريليون دولار في عام 2024، مما أدى إلى تزايد المخاوف بشأن الارتفاع الكبير المتوقع في الطلب على الكهرباء. ففي عام 2024، شكلت مراكز البيانات حوالي 1.5% من استهلاك الكهرباء العالمي، أي ما يعادل 415 تيراواط – ساعة. واستحوذت الولايات المتحدة على الحصة الأكبر من استهلاك الكهرباء لمراكز البيانات في عام 2024 بنسبة 45%، تلتها الصين بنسبة 25%، ثم أوروبا بنسبة 15%.
وعالميًا، نما استهلاك الكهرباء من قبل مراكز البيانات بمعدل يقارب 12% سنويًا منذ عام 2017، وهو أكثر من أربعة أضعاف معدل نمو الاستهلاك الكلي للكهرباء.
ومن المتوقع أن يرتفع استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات إلى أكثر من الضعف، ليصل إلى نحو 945 تيراواط - ساعة بحلول عام 2030، وهو ما يزيد قليلًا عن إجمالي استهلاك الكهرباء الحالي لليابان.
ويُعد الذكاء الاصطناعي المحرك الأهم لهذا النمو، إلى جانب الطلب المتزايد على الخدمات الرقمية الأخرى.
وبنهاية هذا العقد، من المتوقع أن تستهلك الولايات المتحدة كهرباء لمراكز البيانات تفوق تلك المستخدمة في إنتاج الألمنيوم والصلب والأسمنت والكيماويات وجميع الصناعات الأخرى كثيفة الطاقة مجتمعة.
وتزداد حالة عدم اليقين بعد عام 2030، لكن وفقًا لسيناريو الحالة الأساسية، من المتوقع أن يرتفع استهلاك الكهرباء العالمي لمراكز البيانات إلى حوالي 1200 تيراواط - ساعة بحلول عام 2035.
وستلعب مصادر الطاقة المتجددة والغاز الطبيعي الدور الأبرز في تلبية الطلب على الكهرباء من مراكز البيانات، إلا أن مجموعة واسعة من المصادر الأخرى ستساهم أيضًا، حيث من المتوقع أن تتم تلبية نصف النمو العالمي في الطلب على مراكز البيانات من خلال مصادر الطاقة المتجددة، مدعومة بأنظمة التخزين وشبكات الكهرباء الأوسع.
ويُتوقع أن تنمو توليد الطاقة من المصادر المتجددة بأكثر من 450 تيراواط/ساعة بحلول عام 2035 لتلبية احتياجات مراكز البيانات، مستفيدة من قصر فترات التنفيذ، والتنافسية الاقتصادية، واستراتيجيات الشراء التي تعتمدها شركات التكنولوجيا.
وسيساهم القطاع النووي بتوليد كمية إضافية مماثلة تقريبًا، خاصة في الصين واليابان والولايات المتحدة.
ومن المؤمل أن تبدأ أولى وحدات المفاعلات النووية الصغيرة المعيارية (Small Modular Reactors) العمل بحلول عام 2030.
المشكلة والحل في الوقت ذاته
تبدو المخاوف من أن الذكاء الاصطناعي قد يسرّع من تغير المناخ مبالغًا فيه، كما هو الحال مع التوقعات بأن الذكاء الاصطناعي وحده سيحل المشكلة. فمن المتوقع أن ترتفع انبعاثات الكربون الناتجة عن استهلاك الكهرباء في مراكز البيانات من 180 مليون طن حاليًا إلى 300 مليون طن في سيناريو الحالة الأساسية بحلول عام 2035، وقد تصل إلى 500 مليون طن في سيناريو الإقلاع، ورغم أن هذه الانبعاثات تظل أقل من 1.5% من إجمالي انبعاثات قطاع الطاقة خلال هذه الفترة، إلا أن مراكز البيانات تعد من بين أسرع مصادر الانبعاثات نموًا.
في المقابل قد يؤدي التبني الواسع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي الحالية إلى تحقيق تخفيضات في الانبعاثات تفوق بكثير تلك الناتجة عن مراكز البيانات - لكنها تظل أقل مما هو مطلوب لمعالجة تغير المناخ.
وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن التخفيضات الممكنة في الانبعاثات من خلال التطبيق الواسع للحلول المدفوعة بالذكاء الاصطناعي تعادل نحو 5% من الانبعاثات المرتبطة بالطاقة بحلول عام 2035.
يُعد الذكاء الاصطناعي أداة مهمة في جهود خفض الانبعاثات، لكنه ليس «الحل السحري» ولا يلغي الحاجة إلى سياسات استباقية ومتكاملة.
الذكاء الاصطناعي يزيد من مخاطر أمن الطاقة أم يعالجها؟
يساهم الذكاء الاصطناعي في تفاقم بعض مخاطر أمن الطاقة، لكنه يقدم أيضًا حلولًا على الصعيدين السيبراني والمادي، فمع تزايد قدرات الذكاء الاصطناعي، تزداد أيضًا إمكانية استخدامه أو إساءة استخدامه من قبل جهات متعددة. وقد تضاعفت هجمات القرصنة الإلكترونية ضد مرافق الطاقة ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الماضية، وأصبحت أكثر تطورًا بفضل الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة حاسمة للدفاع ضد هذه الهجمات.
وفي المجال المادي، تُمكِّن الأقمار الصناعية والمستشعرات المزودة بالذكاء الاصطناعي من اكتشاف الحوادث التي تصيب البنية التحتية الحيوية للطاقة بسرعة تزيد 500 مرة مقارنة بالطرق التقليدية الأرضية، مع توفير دقة مكانية عالية، ومع تطور طبيعة قضايا أمن الطاقة، ستواصل وكالة الطاقة الدولية مراقبة هذه المسألة الحيوية عن كثب.
الجانب المعطاء من الآلات
وتجادل الدراسة الصادرة عن الوكالة أنه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفتح آفاقًا واسعة لتحقيق مكاسب كبيرة في الكفاءة التشغيلية لقطاع الطاقة عن طريق تحويل وتحسين عمليات إمداد الطاقة والمعادن، وتوليد الكهرباء ونقلها، واستهلاك الطاقة، وخفض التكاليف، وتعزيز كفاءة الإمداد، وإطالة أعمار الأصول، وتقليل فترات التوقف عن العمل، وخفض الانبعاثات.
وكانت صناعة النفط والغاز من أوائل القطاعات التي تبنت الذكاء الاصطناعي، حيث استخدمته لتحسين عمليات الاستكشاف والإنتاج والصيانة والسلامة، ففي مجال الاستكشاف والتطوير، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجعل تقييم الموارد أكثر موثوقية، ويقلل من حالة عدم اليقين قبل الحفر، أما في العمليات التشغيلية، فيُستخدم الذكاء الاصطناعي لتحسين وأتمتة العمليات الإنتاجية، ورصد التسربات، والتنبؤ بمتطلبات الصيانة، ودعم الجهود المبذولة لخفض انبعاثات الميثان.
ويساهم الذكاء الاصطناعي أيضًا في تحقيق توازن أفضل لشبكات الكهرباء التي أصبحت أكثر تعقيدًا ولا مركزية ورقمنة، ويمكنه كذلك تحسين توقعات توليد الطاقة المتجددة المتغيرة ودمجها، مما يقلل من الفاقد والانبعاثات، كما تسهم تقنيات الكشف عن الأعطال القائمة على الذكاء الاصطناعي في التعرف السريع والدقيق على أعطال الشبكات، مما يقلل مدة الانقطاعات بنسبة تتراوح بين 30% و50%.
ويمكن أن تزيد أجهزة الاستشعار عن بُعد وإدارة الشبكات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي من سعة خطوط النقل، وباعتماد هذه الأدوات، يمكن تحرير ما يصل إلى 175 جيجاواط من سعة النقل دون الحاجة إلى بناء خطوط جديدة، وهو أكثر مما يمثل الزيادة المتوقعة في حمل الطاقة من مراكز البيانات حتى عام 2030 وفق سيناريو الحالة الأساسية.
وفي قطاع الصناعة، يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن تسرّع من تطوير المنتجات، وتخفض التكاليف، وتُحسن الجودة، بل يمكن أن يؤدي إلى وفورات في الطاقة تعادل مجمل استهلاك الطاقة في المكسيك اليوم. وتستحوذ الشركات الأوروبية على أكثر من نصف الحصة السوقية لحلول الأتمتة الصناعية، التي تُعد الركيزة الأساسية لنشر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاع الصناعي.
أما في قطاع النقل، تُستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي حاليًا لإدارة حركة المرور، وتحسين مسارات التنقل، والتنبؤ بمتطلبات الصيانة، وتطوير المركبات الذاتية القيادة، ويمكن أن يؤدي التبني الواسع لهذه التطبيقات إلى وفورات في الطاقة تعادل كمية الطاقة التي تستهلكها 120 مليون سيارة. ورغم أن المركبات الذاتية القيادة تعمل بكفاءة أعلى من المركبات التقليدية، إلا أنها قد تجذب المزيد من الناس بعيدًا عن وسائل النقل العام مع انخفاض تكاليفها وزيادة توفرها، مما قد يؤدي إلى ما يُعرف بتأثيرات الارتداد.
وبشكل عام، سيمكن الذكاء الاصطناعي العلماء من تسريع اكتشاف المواد الواعدة، وتصاميم البطاريات، وجزيئات التقاط الكربون بشكل كبير.
وستكون هناك حاجة إلى سياسات داعمة لتعزيز الابتكار المدفوع بالذكاء الاصطناعي وتسريع عملية التسويق التجاري، التي غالبًا ما تشكل العائق الأكبر أمام تبني المنتجات الجديدة، أكثر من مرحلة الاكتشاف نفسها.

0 تعليق