لم أكن يومًا أحسب نفسي ساذجًا أو غافلًا عن حق من حقوقي لدى الآخرين، رغم الحرص الذي يشتعل في رأسي، الأمر الذي يجعلني أتجنب كل حجر يُلقى في طريقي، إلا أن التلاعب بالألفاظ للقفز من فوق عتبات المسؤولية هو الذي أوقعني في شراك الخديعة.
جاء طالبًا مني المال، شرح لي ظروفه والحالة التي تُصعب على «النفس»، أخبرته بأن «الحال من بعضه»، توسل لي بأن أساعده في تفريج همّه وقضاء حاجته، عزف على وتر الإنسانية «والناس للناس»، بعد يوم سلمته المبلغ الذي يحتاجه، لم يكن بسيطًا أو قليلًا، على أمل أن يرجعه لي عندما تتيسر أموره، لم ألزمه بالوقت ولم أطلب منه أي إثبات ورقي مكتوب بالمال الذي أخذه عند باب البيت، وضعت فيه كل الثقة «العمياء» ولم أشك في لحظة بأن آخر يوم أراه عند باب بيتي!
كثير منا لا يود أن يُعكّر صفو علاقاته بالآخرين، خاصة عندما يطلبون المال، ولا نذهب إلى التفكير في توثيق ما دار بيننا من اتفاق أو الاستعانة بالآخرين من أجل الشهادة على ما تم بيننا، رغم أن القرآن الكريم أكد على ذلك في سورة البقرة بقوله تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ».
أيضًا الله سبحانه وتعالى أمرنا في الآية الأخرى:
«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
أصبح إنكار الحقوق آفة منتشرة بين بعض فئات المجتمع، وكثيرًا ما ضاعت الحقوق من منطلق الثقة والصداقة والقرابة وغيرها، البعض وحتى هذه اللحظة عندما ينكر حق الآخرين يعتقد بأنه أذكى منهم، بينما هو شخص محتال ونصّاب، يستعطف الآخرين وهو يعلم بأنهم لن يطلبوا منه أي ضمانات تلزمه برد ما أخذه.
البعض وصل به الحد أنه اعتبر ما أخذه ليس قرضا أو دينا عليه وإنما هي مساعدة مالية قُدمت له على طبق من ذهب، وبما أن صاحب الحق ليس لديه ما يثبته به، كثيرا ما تضيع أمواله ويتبقى الحسرة والندم تلازمه لفترة طويلة لأنه يعتبر نفسه أصبح غبيًا ما يكفي.
احذروا من الديون، من مات وعليه دين تبقى روحه مرهونة، لا يدخل الجنة حتى يُقضى عنه دينه أو يعفو عنه صاحب الدين.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه».
ذكر علماء الدين هذه المسألة المهمة، وقالوا: إن الميت الذي لم يوجد له تركة تُوفي الدين الذي عليه، وكان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها، فإن الله يؤدي عنه يوم القيامة ويُرضي الغرماء، وإن كان قد أخذها يُريد إتلافها فإن الله يُتلفه، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
نحن لسنا فقهاء أو علماء لنفتي في الدين، ولكن نحن بشر عاديون نفرح ونتألم ونحس بمن حولنا، فعندما نقدم خدمة جليلة لبعضنا البعض ونساعد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، نرتجي من الله الأجر والثواب، وأيضاً أن تُرد إلينا الأمانة التي أؤتُمِنّا عليها من الغير، فالدين الذي منحناه للآخرين إما أن يُرد أو نُسامح فيه، أما أن نشعر بأن هناك استغلالا ونصبا واحتيالا وقعنا فيه، فهذا أمر مرفوض ومحرّم شرعا ومُجَرَّم قانونا.
إذا لم يكن لدينا ما يُثبت ما تم أخذه منا برضانا، فإن الله مُطلع على جميع العباد، ولا يعتقد الذي يأخذ أموال الناس ثم ينكرها بأنه سينجو من عذاب الله أو لن يتم محاسبته على ما فعل، فالله تعالى مُطّلع على العباد.
0 تعليق