كثير من الناس يعمدون إلى تأجيل ما يودون تحقيقه أملاً في انتظار اللحظة المناسبة، أو عندما تتغير الظروف إلى الأحسن، وكثير منهم يودون أن يعبّروا عن شعورهم بالحب والامتنان لأشخاص يحبونهم، أو أن يقوموا بعمل ما للتعبير عن هذا الشعور ولكنهم دوماً يؤجلون تنفيذ ذلك إلى وقت لاحق.
وبعض الناس يحلمون بأن يتعلموا شيئاً جديداً يغني حياتهم كتعلم لغة، أو العزف على آلة موسيقية، أو تعلم مهارات جديدة في الفن أو التكنولوجيا، وبعضهم الآخر يتطلعون إلى تحقيق مشروع يحلمون به، أو القيام برحلة سفر إلى بلد بعيد للنهل من ثقافته والتعرف على عاداته وتقاليده، ولكنهم يؤجلون ما يودون تحقيقه إلى المستقبل بسبب انشغالهم في زحمة الحياة. وهناك ألف أمنية وأمنية نود أن نحققها ولكن الحياة حبلى بالمفاجآت، وكل يوم يبرز شيء جديد، فنؤجل ونؤجل إلى أن يكون قد فات الأوان، حين لا ينفع الندم.
إننا ننسى أن قطار العمر يجري دون انتظار، وأن الوقت يمضي كالنهر الذي لا يعود، والأشياء قد تتغير إلى الأسوأ وليس للأحسن، والظروف قد تتعقد ويصبح تحقيق الأمنية صعب المنال.
علاوة على ذلك، فإن الحياة لن تأتي دائماً بالسيناريو المثالي الذي نطمح إليه. لذا، إذا وقعنا في مصيدة التسويف، فإننا لن ننجو منها إلا نادمين، إذ قد يؤثر تأجيل ما نرغب في تحقيقه سلباً على شغفنا ويطفئ بريق الأمل في نفوسنا.
نؤجل الاعتذار إلى من ظلمناه فيسبقنا الفقد، ونؤجل الاعتراف بالجميل لشخص ترك أثراً طيباً في نفوسنا فنفقده دون أن نعبر له عن امتناننا، ونؤجل العيش كما نحب في هذه الحياة، فنكتشف أنها مضت دون أن نعيشها. الوقت لا ينتظر أحداً، ومن يظنّ أنه يملك الغد، قد يستيقظ ليجد أن الأمس كان فرصته الأخيرة.
تسلل إلى ذاكرتي اسكتش غنائي جميل وقديم للأخوين رحباني بعنوان «الموسم الأزرق». أثّر بي كثيراً. كان بطل القصة فلاحاً فقيراً تزوج حبيبته ووعدها بشراء «فستان مخمل أزرق» كانت تحلم به طوال حياتها. ومرت عشرون سنة، وتحسنت أحواله ففاجأها ذات يوم بالهدية التي وعدها بها. ولكن للأسف رغم فرحتها بالهدية إلا أنها اعتذرت منه، وأعطتها لحفيدتها لأن الأوان قد فات، ولم يعد الفستان يليق بها لأنها كبرت في العمر. العبرة من هذه القصة المؤثرة هي الوفاء بالوعد النقي الذي قطعه الزوج على نفسه لزوجته بعد مرور تلك السنين عند تحسن أحواله المادية.
ولكن من جهة أخرى تعكس حقيقة مؤلمة وهي أن الحلم قد يتحقق بعد فوات الأوان، أو قد لا يتحقق أبداً لانشغالنا في زحمة الحياة، أو بسبب ظروف خاصة نمر بها، أو عدم مجيء الفرصة المناسبة حسب اعتقادنا.
لذا، إذا كنت تود أن تخبر شخصاً أنك تحبه فأخبره الآن وليس غداً، وإن أردت أن تصالح صديقك كنت قد ظلمته وأجحفت بحقه فاعتذر منه وصالحه الآن، وإن أردت أن تزرع شجرة وتستمتع بقطوفها في حياتك فازرعها الآن. وإن أحببت أن تعبّر عن إحسان بوالديك فاخفض لهما جناح الذل من الرحمة في الحال قبل أن يرحلا عن هذه الدنيا فتشعر بالأسى طوال حياتك. وإن أردت أن تغيّر من أسلوب معاملتك الجافة لزوجتك التي كرست عمرها لأجلك فغيّره الآن واعمل على إرضائها بكلمة حب أو هدية معبّرة قبل أن تخسرها. وإن أردت أن تلعب مع أطفالك وتستمتع بصحبتهم فافعل ذلك اليوم رغم انشغالك، لأنهم سوف يكبرون بسرعة لا تتخيلها وتشعر بالحسرة على ما فاتك. وإن كنت تحلم بالسفر واكتشاف العالم فلا تؤجل ذلك، وابدأ بعمل ذلك كله الآن قبل أن تسرقك الأيام وتقع في مصيدة التسويف. وكما قال أحد الحكماء: «لا تنتظر الفرصة بل اصنعها» لأن اللحظة المناسبة قد لا تأتي أبداً.
أستاذة جامعية في علم النفس التربوي
0 تعليق