حينما يصبح الحديث "شفاء": كسر الصمت مفتاح التغيير نحو العلاج النفسي

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

عمان- لطالما ارتبط العلاج النفسي بصور مشوهة وأحاديث هامسة وكأن طلب المساعدة في لحظات التعب والحزن جريمة لا بد من إخفائها. لكن النفس كالجسد تماما تمرض وتتعب وتحتاج لمن يعتني بها ويفهمها، فكيف لنا أن ننكر على أنفسنا هذا الحق لمجرد أن الألم لا يرى؟اضافة اعلان
النظرة للعلاج النفسي كحق تبدأ مع اللغة التي نتحدث بها والتربية التي تمنح الأطفال مساحة للتعبير عن مشاعرهم من دون خوف.
ويأتي الوعي بالعلاج النفسي دليلا على النضج الإنساني، وكسر حاجز الصمت يعني الاعتراف بالألم النفسي، وهو إعلان شجاع أن نفهم أنفسنا ونتحرر من ثقل ما نحمله، وهو ضرورة لكل شخص محاط بالصراعات اليومية أو بجروح قديمة أو بأسئلة مؤرقة لا يجد لها مخرجا.
تحول تدريجي بالتقبل
لكن في السنوات الأخيرة، بدأنا نشهد تحولا تدريجيا فيما يتعلق بالصحة النفسية والاعتراف بأهمية العلاج، ويبقى السؤال مفتوحا: هل أصبح التقبل حقيقيا لكل ما يخص العلاج النفسي؟
المؤلم حقا، بحسب ياسر (50 عاما)، أن الوجع ما يزال يقاس بدرجة حرارة أو جرح ظاهر بينما الألم النفسي يواجه بالخوف أو التجاهل، فينظر إلى من يعاني من اضطراب نفسي وكأنما اختار ضعفه، وكأن الحزن المزمن ترف والقلق مجرد مبالغة والاكتئاب كسل. فالتحرر من فكرة الألم النفسي يكون بكسر الصمت والسماح للأسئلة بأن تطرح من دون خجل.
يقول "كنا لوقت طويل نشعر بالخجل تجاه كل من يتجرأ ويطرق باب العيادات النفسية، بل ونتفنن في إطلاق الأحكام على مرتاديها بسبب الوصمة المجتمعية التي تدين الشخص لمجرد أنه يريد أن يتحرر من أوجاع نفسية تنهك روحه وتحرمه الاستمتاع بالحياة".
لكن، اليوم أشياء كثيرة تغيرت، وباتت هناك كتب تتحدث عن الصحة النفسية وكل ما يتعلق بها، إضافة إلى بعض البرامج والمسلسلات التي تهتم بمثل هذه المواضيع وتسلط الضوء عليها، بل وأيضا الحديث عنها في مواقع التواصل الاجتماعي.
ويرى أن التقبل بدأ، لكنه ما يزال هشا ويحتاج لوعي أكبر كي نستطيع أن نراه جزءا طبيعيا من العناية بالذات ونتوقف عن ربطه بالجنون. ووفق ياسر، فإن القوة الحقيقية تكمن في الاعتراف بالحاجة للمساعدة في الوقوف أمام المرايا الداخلية بصدق وفي الرغبة العميقة بإعادة التوازن إلى الذات.
رحلة مستمرة نحو الاتزان النفسي
أما إيمان، فتجد أن الوعي بصحتك النفسية يعني أن تفهم أنك في رحلة مستمرة نحو الاتزان النفسي وليس في حالة دائمة من السلام. تقول "إن العلاج النفسي حق مشروع في ظل كل ما نعيشه من ضغوط وأعباء نفسية"، مبينة أن كل شخص فينا يعيش معارك صامتة لا تترك جروحا ظاهرة ربما لكنها تقتل الروح ببطء، وهنا تبرز أهمية العلاج النفسي كقرار شجاع نختار من خلاله أن نواجه ذواتنا وأن نضع إصبعنا على الجرح لكي نرممه ونداويه.
وتنوه إلى أن العلاج النفسي مساحة آمنة للبوح لحوار صادق مع الذات تحت إرشاد متخصص قادر على فهم العقد التي تراكمت على مر السنوات، هو لا يعد بالشفاء الفوري، لكنه يزرع الوعي ويمهد الطريق لنكون أكثر فهما لأنفسنا وأكثر تسامحا. وتبين أن اليوم، ومع تغير الزمن، لم يعد اللجوء إلى العلاج النفسي أمرا نخجل منه كما في السابق، بل صار ينظر إليه عند البعض على أنه خطوة ناضجة ومسؤولة، وذلك نتيجة لأصوات المؤثرين، ليصبح الحديث عن الاكتئاب والقلق أو حتى الصدمات أكثر وضوحا وأقل وصما.
تسارع وتيرة ونمط الحياة
وتبين خبيرة علم الاجتماع فاديا إبراهيم، أنه في الآونة الأخيرة ازدادت نسبة انتشار الأمراض النفسية نتيجة تغير وتسارع وتيرة ونمط الحياة، وزيادة الأحداث والمواقف التي تضع الأشخاص تحت ضغط، كالمشاكل المالية أو الطلاق وغيرها من الصدمات النفسية. وعلى الرغم من زيادة عدد الأشخاص الذين يتلقون الدعم أو العلاج النفسي، إلا أن عدد الأشخاص الذين يرفضون العلاج قد زاد أيضاً؛ حيث تتطلب بعض الأمراض النفسية علاجا داخليا للمرضى النفسيين في العيادات والمستشفيات المخصصة للطب النفسي. ومع ذلك، تؤدي الأحكام المسبقة حول العيادات النفسية والطب النفسي إلى رفض العلاج.
تقول الأبحاث إن المشاكل النفسية، مثل القلق والاكتئاب ونوبات الهلع، تزداد بنسب عالية، من ناحية أخرى، يرفض معظم الناس العلاج من هذه المشاكل النفسية ويتسبب رفض العلاج في تقدم المرض أكثر.
ووفق إبراهيم، هناك العديد من العوامل الاجتماعية والفردية الكامنة وراء عزوف الناس عن العلاج في عيادات الطب النفسي، منها القلق والخوف من نبذ المجتمع الذي يعيشون فيه ونظرته لهم. ويقف وراء هذا التفضيل الخوف من أن يوصف الشخص بأنه "مريض نفسي". وفي بعض الحالات، تمنع بعض العوامل الفردية، مثل السمات الشخصية كالجهل وضعف الوعي أو عدم القدرة على الحكم على الأمور، المريض أو أسرته من إدراك خطورة المرض ورفض تلقي العلاج. وأحياناً، تحول الظروف أيضاً دون المبادرة للعلاج، مثل عدم توفر المال أو بعد أماكن السكن عن مراكز العلاج، أو قلة المراكز والمختصين.
"الفوبيا" والخوف من نظرة المجتمع
ولكن يبقى السبب الأساسي للعزوف عن تلقي العلاج النفسي هو "الفوبيا المجتمعية" والخوف من نظرة المجتمع وأحكامه على المريض، فقد يبقى هذا المرض وصماً اجتماعياً للمريض مدى الحياة، أيضاً عدم الإيمان والثقة بالطب النفسي والأحكام المغلوطة عنه، مثل أن العلاج النفسي والأدوية تؤدي للإدمان أو قد تؤدي إلى تدهور الحالة الصحية للمريض.
وأيضاً، هناك سبب مهم لقلة الإقبال على العلاجات النفسية في مجتمعاتنا، كما تقول إبراهيم، وهذا السبب له علاقة بثقافتنا كمجتمعات دينية ومجتمعات تؤمن أيضاً بالأساطير والخرافة، فيشخصون الأمراض النفسية على أنها مثلاً شيء من العين أو الحسد أو السحر أو المس، فيلجأون للمشعوذين للعلاج بدل لجوئهم للطب النفسي. وترى أهمية إعادة تعريف مفهوم العلاج النفسي من خلال التوعية المجتمعية وحملات التوعية في المدارس والجامعات ودور العبادة. وأيضاً من خلال الإعلام من مسلسلات وأفلام وبرامج تستضيف مختصين نفسيين للتوعية أكثر بأهمية الطب النفسي، ويمكن استغلال مواقع التواصل الاجتماعي لهذا الغرض أيضاً.
حملات التوعية بالطب النفسي
وعلى الحكومات والجهات الرسمية ووزارات الصحة وضع الخطط والاستراتيجيات لتبني أهمية الطب النفسي وتوفير الميزانيات المناسبة لإقامة أكبر عدد من مراكز الطب النفسي وتوفير العلاجات اللازمة، بالإضافة لإقامة المؤتمرات والندوات والورش وحملات التوعية بالطب النفسي وتشجيع المرضى بالإقبال على العلاج.
ومن جهته، يرى الاستشاري النفسي الأسري الدكتور أحمد سريوي، أنه في البداية يجب علينا التفرقة بين العلاج النفسي الدوائي والعلاج النفسي اللادوائي؛ حيث إن العلاج النفسي الدوائي هو أحد العلاجات النفسية التي يمارسها طبيب متخرج في كلية الطب البشري، ويتم علاج المرضى من خلال الأدوية والعقاقير النفسية لعلاج الأمراض والاضطرابات النفسية.
أما العلاج النفسي اللادوائي، وفق سريوي، فهو من خلال الجلسات النفسية، وهو عبارة عن علاج يقدم الحل للمشكلة النفسية التي يعاني منها الشخص من دون اللجوء للأدوية النفسية، ويسهم هذا العلاج بشكل فعال في علاج الاضطرابات النفسية البسيطة ومتوسطة الشدة، وأيضا في بعض الأمراض الأخرى بجانب الأدوية النفسية.
وتنوه إبراهيم إلى أن وعي المجتمع في ازدياد حقيقي وظاهر تجاه العلاج النفسي والاضطرابات النفسية، والمرض النفسي لا يختلف تماما عن المرض الجسدي، ففي حالة الأمراض النفسية يوجد خلل حقيقي في الهرمونات والنواقل العصبية في الدماغ التي تؤدي لظهور الأعراض النفسية لدى الشخص، وبالتالي، فإنها تتشابه مع الأمراض الجسدية، مثل الأمراض المزمنة كالضغط والسكري، والأمراض الموسمية كالانفلونزا والتهاب الحلق، ولكن الفرق بينهما هو أن الاضطرابات النفسية أعراضها غير محسوسة بالنسبة للأشخاص المحيطين بالشخص الذي يعاني من المشكلة النفسية.
والسبب أن هذه الأعراض التي تظهر لا يدركها المحيطون به بقدر ما يدركها الشخص نفسه، وبالتالي يستمر هذا الشخص في معاناته من دون ملاحظة الآخرين لما يعاني منه، وحينما يقوم بالشكوى قد يواجه بالسخرية أو الاستغراب من المحيطين به.
"ومن المهم الإدراك أن أهمية الصحة النفسية موازية للجسدية، وأنها تلعب دورا مهما جدا في مناعة الإنسان وقدرته على مقاومة الأمراض بشكل عام، وبالتالي ليس عيباً أن تزور المعالج أو الطبيب النفسي لتلقي الرعاية النفسية المناسبة لحالتك، كما تفعل حينما تزور طبيبا لعلاج أمراضك الجسدية الأخرى"، بحسب سريوي.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق