loading ad...
في إقليم تتشابك فيه الصراعات وتتنازع فيه القوى على النفوذ، ينهض الأردن بدور محوري لا يتناسب مع حجمه الجغرافي أو إمكانياته الاقتصادية، لكنه يُعادل في وزنه السياسي دولًا ذات موارد هائلة. هذا التموقع لم يكن ترفًا جيوسياسيًا، بل استحقاقًا فرضته الجغرافيا ورسّخته القيادة، لكنه في المقابل، أنتج كلفة باهظة، يدفعها الأردن أمنًا واقتصادًا واستقرارًا، ضمن ما يمكن توصيفه بـ”ضريبة الجيوسياسة”.اضافة اعلان
فلسطين وسورية: ثقل الدور واستمرارية الالتزام
لم يتزحزح الموقف الأردني قيد أنملة من مركزية القضية الفلسطينية، لا باعتبارها مسألة قومية فحسب، بل لأنها تمس جوهر الأمن الوطني الأردني. وقد حافظ الأردن على ثوابته السياسية في أصعب اللحظات، رافضًا سياسات التهجير، ومشاريع تصفية الهوية الفلسطينية، ومتمسكًا بحل الدولتين وفق الشرعية الدولية، مدعومًا بشرعية الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
وفي الملف السوري، تعامل الأردن مع الأزمة بانضباط سياسي عالٍ، حافظ فيه على توازن دقيق بين مقتضيات الأمن الوطني ومبادئه الأخلاقية. استقبل مئات الآلاف من اللاجئين، وواجه تحديات التسلل والتهريب العابر للحدود، دون أن ينخرط عسكريًا في الصراع. وفي الوقت ذاته، أبقى الأردن قنواته مفتوحة مع مختلف الفاعلين، مساهمًا في الدفع نحو تسوية سياسية شاملة تحفظ وحدة سورية وسيادتها.
العراق: إستراتيجية التلاقي لا الاصطفاف
يمثّل العراق بالنسبة للأردن عمقًا استراتيجيًا يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية، إذ ترتبط الدولتان بعلاقات تاريخية تحكمها المصالح المشتركة لا الأجندات المؤقتة. وقد انتهج الأردن سياسة عقلانية تجاه العراق، قائمة على دعم الدولة الوطنية، دون الانجرار إلى أي استقطاب مذهبي أو استغلال ظرفي. فكان داعمًا لاستقرار العراق، وشريكًا في إعادة إدماجه ضمن الفضاء العربي، عبر مشاريع الطاقة والربط الاقتصادي، وفتح النوافذ السياسية في لحظات التأزم.
الحياد النشط: تموضع مستقل ووزن سياسي راجح
يُجيد الأردن ممارسة “الحياد النشط”، ليس كخيار سلبي، بل كأداة تموضع سياسي تُتيح له لعب أدوار التهدئة والتقريب بين الخصوم، دون التفريط بسيادته أو هويته. وهي مقاربة تستلزم توازنًا دقيقًا، بين عدم التورط في المحاور، والاحتفاظ بعمق العلاقة مع مختلف القوى الإقليمية والدولية. فالأردن ليس تابعًا، بل شريك نديّ، يُمارس استقلالية القرار دون استفزاز، ويوازن بين المصالح دون أن يفقد المبادئ.
الجغرافيا السياسية: مركزية الموقع وتعدد الجبهات
يتموضع الأردن في قلب خريطة التوتر الإقليمي، متاخمًا لفلسطين المحتلة، وعلى تماس مباشر مع الجغرافيا السورية والعراقية، ما يجعله في مواجهة مفتوحة مع تحديات أمنية عابرة للحدود. الموقع الذي يمنحه إمكانية التأثير، يحمّله في ذات الوقت مسؤولية احتواء الانهيارات الإقليمية، وصدّ تهديدات تهريب السلاح والمخدرات والإرهاب. هذه الجغرافيا المركزية تحوّل المملكة إلى “دولة جبهة” بشكل دائم، ما يستنزف طاقاتها الأمنية والبشرية، ويُحتّم على مؤسساتها قدرًا دائمًا من الجاهزية والاستباق.
الدبلوماسية الأردنية: براغماتية منضبطة وشرعية ناعمة
تُشكّل الدبلوماسية الأردنية امتدادًا مباشرًا لرؤية القيادة السياسية، التي اختارت العمل في الهامش الضيق بين الواقع الصلب والمبادئ الثابتة. وهي دبلوماسية تتسم بالاتزان، والقدرة على المناورة دون التصادم، وعلى جمع الأضداد دون التورط. وهذا ما جعل الأردن يُحافظ على حضوره الموثوق في المحافل الدولية، ويُحسن إدارة تعقيدات الإقليم، من دون التورط في نزاعات استنزافية أو تحالفات مُقيدة.
البُعد الإنساني: عقيدة وطنية لا تكتيك سياسيا
لم تكن استضافة الأردن للملايين من اللاجئين العرب عبر تاريخه قرارًا نابعًا من ظرف طارئ، بل تجسيدًا لعقيدة وطنية ترى في التضامن العربي مبدأً لا مناورة. وقد تحمل الأردن أعباءً ديمغرافية واقتصادية هائلة، دون أن يُوظف هذا الملف كورقة ضغط أو ابتزاز سياسي، بل تعامل معه من منطلق إنساني عميق، يستبطن قناعته بدوره العروبي والمبدئي.
خاتمة: عبء الدور وشرعية الموقف
الأردن ليس دولة تقف على الهامش، بل كيان سياسي يتقدّم الصفوف حين تتراجع الإرادات. لكنه في ذات الوقت، يدفع فاتورة هذا الدور من أمنه، واقتصاده، وبُناه التحتية. إنها “ضريبة الجيوسياسة”، حين تفرض الجغرافيا، وتلزم الأخلاق، ويُصبح الصمت تواطؤًا والمواقف خيارًا مكلفًا.
ورغم شحّ الموارد، واشتداد التحديات، يُثبت الأردن أن الثقل السياسي لا يُقاس بالقدرة العسكرية أو المال، بل بالثبات في اللحظة الصعبة، والحكمة في إدارة الأزمة، والقدرة على خلق التوازن وسط الفوضى.
ففي زمن التشظي، يظل الأردن صوتًا عربيًا عاقلًا، ودورًا غير قابل للاستبدال، وبيضة القبان في توازنات الإقليم.
0 تعليق