لم يكن حريقًا فقط..كان لحظة عارية من كل شيء، لحظة اشتعل فيها الحطب والحديد والجدران، واشتعل معها قلبي.
في منزلٍ ظننته حصناً، التهمت النار زاوية الأمان، وامتلأ الهواء بصفير الخطر، لا وقت للتفكير، لا مجال للتراجع، ولا صوت يعلو فوق لهبٍ يتسلّق الجدران بوقاحة.
وسط هذا المشهد المذهول، صرختُ كما لم أصرخ من قبل، وحدي، في زحمة الدخان، أبحث عن مخرج، عن نجدة، عن حياة لا تحترق، لم يكن في الجوار جيران، فالمنازل خالية في تلك اللحظة، لكن صراخي خرج كنداء إنساني، لا يحتاج إلى لغة، لتتوافد بعدها الأقدام من حيث لا أدري: نساء، رجال، مواطنون، مقيمون، بل وحتى جاليات أجنبية كانت تمر من الحي، وقفوا جميعاً أمام الحريق كأنهم أهل بيت واحد.
ما حملوه لم يكن مجرّد دِلاء ماء، بل وفاء، وفطرة إنسانية بحرينية لا تخيب، رأيت في عيونهم شيئاً لا يُشترى.. شعرت فيهم بالوطن، لا الجغرافيا.
وعندما وصلت فرق الدفاع المدني، شعرت للمرة الأولى أن الدقائق التي مرت كانت دهوراً، لكن لحظة حضورهم اختزلت كل شيء، تحرّكوا بمهارة مهنية عالية، كأنهم يدربون الزمن على الطاعة، تبعتهم سيارة الإسعاف، ووراؤها وزارة الكهرباء التي أوقفت التغذية الخاصة بالمنزل كإجراء احترازي فوري، حمى ما تبقى من احتمالات الضرر، كانت هذه لحظة تشهد لا على كفاءة الأجهزة فحسب، بل على وعيها بأدق التفاصيل، وحرصها الصامت على أرواح الناس.
لكن ما أبهرني أكثر، هو ما بعد الحريق..
الجهات الأمنية لم تُغلق الملف عند انطفاء النار، بل شرعت في تحقيق شامل ومعاينة دقيقة، بحثاً عن الأسباب، وعن أي خيط قد يُسهم في فهم ما حدث، بل وتعويض من تضرر، وهذا ليس ترفاً إدارياً، بل حقاً إنسانياً تُجيده البحرين، وتضعه في صلب منظومتها الأمنية، لتقول لمواطنيها: نحن معكم، لا فقط عند الطوارئ، بل بعدها، حين يعود الصمت ويبدأ الألم.
ومن ألسنة اللهب خرجت دروس لم أكن لأفهمها نظرياً.
كانت إحدى السيارات المحترقة تعود لأخي سلمان، وبداخلها مبلغ مالي يخصّه، ظننا أنه ضاع، لكن الجهات الأمنية أرشدتنا إلى إجراءات سهلة وبسيطة من خلال البنك المركزي، تُتيح استعادة القيمة بناءً على إفادات دقيقة، الأمر لم يكن مالياً فقط، بل رسالة مفادها أن الدولة تفكّر حتى في حقوقك وسط الفوضى.
صحيح أن البحرين تمتلك منظومة توعوية محترمة في مجال السلامة المنزلية ومكافحة الحرائق، لكن التجربة أثبتت لي أن الرهبة، والمفاجأة، وظروف اللحظة قد تجعلنا ننسى كل ما تعلّمناه، وهنا تكمن الحاجة إلى التحول من الوعي النظري إلى الوعي العملي، نحن بحاجة لبرامج تعرض تجارب حقيقية، واقعية، صادقة، تعلّم الناس كيف يتصرّفون، لا فقط كيف يتجنّبون الخطر.
بل أكثر من ذلك، حان الوقت لأن يُسن قانون يلزم كل بيت بامتلاك أدوات السلامة الأساسية: طفاية حريق، جهاز إنذار، حقيبة إسعاف، وآلية واضحة للتصرّف عند غياب الاتصال بالدفاع المدني، لأن الخطر لا ينتظر، والنار لا تستأذن.
واليوم، ما دمنا نعيش عصر التحوّل الرقمي، ونستثمر في تقنيات الذكاء الاصطناعي في شتى مجالات الحياة، فلماذا لا يكون للأمن والسلامة نصيب من هذا الذكاء؟ كما تنتشر الكاميرات في أرجاء البحرين لمراقبة الطرق والمنشآت، يمكن – وبشكل واقعي وممكن – نشر أجهزة استشعار ذكية وإنذارات حرارية مربوطة آلياً بأنظمة الدفاع المدني، ترصد ارتفاع درجات الحرارة أو تصاعد الدخان وتبادر بالإبلاغ الفوري دون تدخل بشري، ذلك ليس رفاهية تقنية، بل ضرورة وطنية تعني أن كل بيت سيكون محاطاً بعيون ذكية تحرسه حتى في غياب أصحابه، وتمنح فرق الدفاع المدني أفضلية السبق في التصدي قبل أن تشتد النيران.
إن دمج الذكاء الاصطناعي في منظومة الأمن المدني يعكس استدامة الفكر البحريني في التطوير، ويحول السلامة من مسؤولية فردية إلى نظام وطني وقائي متكامل، لا يكتفي برد الفعل، بل يستبق الخطر ويخمده قبل أن يُولد.الحريق كشف لي، لا عن هشاشة الأشياء، بل عن صلابة الدولة والمجتمع معاً، البحرين – كما عهدناها – لا تتخلّى عن أبنائها، ولا تسمح بأن يمر الألم بلا سند، ولا يُولد من الرماد إلا حكاية بطولة مشتركة بين الإنسان والنظام.هذا الوطن «البيت العود» لا يحتضن شعباً فحسب، بل يصنع سلوكاً وضميراً ومسؤولية جماعية، ومن قلب اللهب خرجتُ لا فقط بنجاة، بل بقصة وطن يتقن حماية أهله، ويحرس تفاصيلهم، ويمنحهم أمناً يمتد حتى ما بعد الطوارئ.
* إعلامية وباحثة أكاديمية
0 تعليق