الهُوية 1- جدل المعنى والمبنى

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الهُويِّة «identity» هي التصورات والرموز والسلوكيات التي تعبر عن الفرد أو الجماعة، أو التي يعتبرونها مهمة وذات أولوية في حياتهم مقارنة بغيرها، بيد أن مفهومها مر بتحولات جذرية تعكس الانتقال الحضاري من عصور ما قبل الحداثة إلى ما بعدها، فقدماء العرب على سبيل المثال لم يكن لديهم مصطلح خاص يدل عليها، وكانوا يستخدمون مفردتي الهَوِيَّةُ بفتح التاء، والهُويَّة بفتح الياء المشددة، وهما مشتقتان من الهَويّ والهُوَة، وكلا الاشتقاقين لا يخرجان عن أصلهما الذي هو السقوط من أعلى، حيث روى الأزهري عن الأصمعي (ت 216هـ) أنه قال: «الهَوِيَّةُ: بِئْر بعيدةُ المَهْواة». وقال ابن فارس (ت 395هـ) في مقاييس اللغة: «الْهُوِيَّةُ: الموضع الذي يهوي من يقوم عليه، أي يسقط». وقد جمع ابن منظور (ت 711هـ) المفردتين في لسان العرب، فقال: «هُوَيَّةٌ تَصْغِيرُ هُوّة، وَقِيلَ: الهَوِيَّةُ بئر بعيدة المهواة، وعرشها سقفها المغمى عليها بالتراب فيغتر به واطئه فيقع فيها ويهلك».

الأمر كذلك بالنسبة لقدماء اليونان، فلم يكن مفهوم الهوية بما نعرفه اليوم حاضرا لديهم، ولكن أرسطو استخدم مفردة « ταὐτότης» التي تعني التشابه، وتم ترجمتها إلى الهُويِة فقال: «ما هو هوى بالعرض مثل الأبيض = الموسيقى، فهما متشابهان من حيث إنهما أعراض لشيء واحد، وكذلك قولك الإنسان والموسيقى، لأن الواحد منهما عرض بالنسبة للآخر... إذ يقال إن الإنسان والموسيقار هما في هويّة واحدة... ومن ثم فمن الواضح أن الهويّة هي وحدة الوجود سواء أكان وجودًا لأكثر من شيء واحد أم لشيء واحد». حيث تحيل دلالة الهويّة الأرسطيّة إلى «الوجود» وهو صفة للذات، عكس الماهية التي هي جوهر الذات.

ويبدو أن المترجمين العرب الأوائل قد اختاروا مفردة الهُويِة لترجمة مفردة «التشابه» الأرسطية اعتمادا على تركيب لغوي دشنه أبو الهذيل العلّاف (ت 235هـ) حيث قال في وصف الله تعالى: «عالمٌ بعلم هُوَ هُوَ»، ثم سُكَّت عبارة «هُوَ هُوَ» في مفردة واحدة وهي «الهُويِِّة»، ولا ندري من قام بعملية السكّ هذه التي استفاد منها المترجمون لنص أرسطو، ولكن أول ظهور لها في التراث العربي كان في قول أبي منصور الماتريدي (ت 333هـ): «ثم الهُوِيِّة في الشاهد كناية عن الوجود، وتأويله نفي العدم عنه، والله تعالى لم يزل ولا يزال بلا تغير ولا زوال ولا انتقال من حال إلى حال، ولا تحرك ولا قرار». وقد نبه ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) إلى هذا التطور الفيلولوجي في صياغة المفردة حين قال: «وحدُّ الهُويِّة هو أن كل ما لم يكن غير الشيء فهُوَ هُوَ بعينه، إذ ليس بين الهُويّة والغيرية وسيطة يعقلها أحد البتَّة».

بيد أن المعنى القديم للهوية الذي كان لدى العلّاف وأرسطو قد تم استبداله بمعنى آخر ظهر في نهاية القرن الثامن عشر الذي عرف بقرن التنوير والقرن التاسع عشر الذي عرف بعصر الحداثة، وهما القرنان اللذان تم في أوروبا التحول من النظام الملكي إلى النظام الديمقراطي، ومن المرجعية الدينية إلى المرجعية البشرية، ومن الروح الجماعية إلى النزعة الفردية، وابتدأ مفهوم جديد للهوية بالتشكل، وهو يحيل إلى أفكار المرء وقناعاته وتصوراته وانتماءاته الفكرية، بيد أنه لم يحظ بالرواج بحسب وليم آوثوايت في «قاموس بلاكويل للفكر الاجتماعي» إلا في النصف الثاني من القرن العشرين.

وقد اتخذت الدراسات المعاصرة للهوية بحسب آوثوايت مسارين متكاملين، الأول هو المسار النفسي «السيكولوجي»، حيث يرى عالم النفس إريك إريكسون أن الهوية هي سيرورة تستقر في صميم الفرد والجماعة. أما المسار الاجتماعي «السوسيولوجي» بحسب عالم الاجتماع أنتوني غدنز فيرى أن الهوية «تتعلق بفهم الناس وتصوُّرهم لأنفسهم ولِما يعتقدون أنه مهم في حياتهم».

ويذهب وليم آوثوايت إلى أن هذين المسارين متفقان على أن المجتمع الحديث قد فقد حسّ التشارك إلى حد كبير، وأنه قد ترك الناس بدون معنى واضح للهوية، وأن إمارات هذه المعضلة تبرز في تضخم الأعمال الأدبية التي تعالج مسألة تمزق الذات والبحث عن الهوية، وأن جميع تلك الأعمال تتفق على أن هناك تحولا عميقا في مفهوم الذات الحديثة، ما يجعلها أكثر فردانية واندفاعا ونزقا، وأن مصطلح الهوية يستمد ملامحه من نموذج الوعي الطبقي الماركسي، وأن هناك حركة ديالكتيكية للثقافة والسياسة والهوية قد تؤدي إلى تغير اجتماعي أعمق، وربما خلق اصطفافات جديدة.

إذن نحن أمام مفهوم جديد للهوية يعبر عن الوعي النفسي والفكري للفرد والجماعة، وأن هذا الوعي هو ما يحدد هوية الفرد والمجتمع، وغالبا ما يرتبط هذا الوعي بالتصورات الثقافية، ويتجلى في المظاهر والرموز والممارسات، أو كما يقول أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» إن الهوية قبل أي شيء، مسألة رموز، بل ومظاهر، فعندما أصادف في أحد المحافل أشخاصا يحملون أسماء ترن كاسمي، ويملكون لون البشرة نفسها أو الميول عينها، بل والعاهات ذاتها، أستطيع أن أشعر بنفسي ممثلا في هذا المحفل، فهناك خيط انتماء يربطني به».

الهُويّة بهذا المعنى تعبير عن شخصية الفرد وانتمائه، وهي تكشف عن عمليّة الانتخاب الذاتيّة التي يرسم الفرد من خلالها ملامح شخصيته التي يتميز بها عن الآخر، وهذه العملية ليست لحظية بل هي تبدأ من لحظة الوعي الأول بالذات والآخر، وتستمر مع الإنسان طوال حياته، وهي تتميز بتفاوض مستمر، يتم فيه نحت وتشكيل وإعادة رسم لتصورات الفرد عن نفسه، وكيفية ارتباطه وتفاعله مع الجماعة، وهذه العملية التي تحدث في اللاوعي، يدخل فيها فاعلون كثر، أهمهم البيئة الثقافيّة والاجتماعيّة بالإضافة إلى معارف الفرد وإرادته الواعية، عكس المعنى التراثي الذي يتحدث عن الهوية بمعنى الوجود والتشابه التي لا دخل للإنسان وإرادته بها.

لكن هل نحن بحاجة إلى هذا المفهوم الجديد للهوية؟ هذا السؤال هو ما سنجيب عنه في المقال القادم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق