"أنا سامحتهم، لكن أتمنى من الله ألا يسامحهم ولا يغفر لهم"!!! نظرت باستغراب لصديقتي وهي تتحدث "لم أفهم العبارة "قلت لها "يعني هل سامحتهم أم لا؟" قالت مكررة حديثها "نعم سامحت سامحت، لكن أتمنى من الله ألا يسامحهم" ظل عقلي مشوشاً للحظات في محاولة يائسة مني لفهم العبارة الغريبة المتناقضة التي قالتها، تعرضت صديقتي منذ أيام لموقف صعب حيث قامت إحدى زميلاتها في العمل بنشر أكاذيب حول موضوع يتعلق بكيفية أدائها لمهامها الوظيفية، وعندما علمت صديقتي بما كان يقال تقدمت بشكوى رسمية لإدارة شؤون الموظفين التي سارعت بحل المشكلة وقامت بعدها زميلتها بتقديم اعتذار لها فما كان من صديقتي إلا تقبل الاعتذار، لكن عندما سألتها إن كانت قد غفرت لها ما فعلت جاء ردها غريباً، قالت سامحت ولكنها لا تتمنى من الله أن يسامح.
تساؤلات كثيرة تلك التي تعصف بعقلي هل نعفو ونغفر حقاً عمن يسيء لنا أم أننا ندعي الغفران ظاهرياً فقط؟ هل لدينا القدرة الحقيقية على المضي وكأن شيئاً لم يكن؟ أم أننا نعجز عن إزاحة الأذى عن نفوسنا؟ هل يملك الإنسان القوة ليسامح، أم أننا نُجبر على أن نسامح لنستمر؟
هذه التساؤلات قد تبقى كثيراً بلا إجابة واضحة، فنحن نتعرض لمواقف كثيرة كل يوم نواجه شخصيات متغيرة نتعرض للظلم، وقد نظلم في بعض الأحيان أيضاً، فهل نعفو عنهم أوهل يعفون هم عنا زلاتنا وهفواتنا؟ لا نعلم ما في نفوس الناس، ولكننا نعلم أن ليس كل ما يقال حقيقة، ويعكس ما نشعر به حقاً، فبعض الأذى يفوق قدرتنا الإنسانية البسيطة على الغفران وبعضه هين يسير يمر بنا كنسمات من الهواء الحار جداً في ظهر صيف شمسه تملأ المكان نوراً وتخنقنا حراً، فلا نعود نتذكر بعدها أصلاً كاملاً الموقف وما حدث وقيل.
نحن بشر تحركنا مشاعرنا أكثر مما يفعل عقلنا، لذا نعلم أن لدينا قدرات بسيطة في مواجهة تلك المشاعر التي تملؤنا وبالذات أشدها والتي أظن يقيناً أنها تنحصر في ثلاثة هي الحب والغضب والظلم، لا نقاوم شعور الحب، ولكننا في ذات الوقت لا نستطيع في الغالب أن نقاوم شعور الغضب وشعور الظلم، لذا كما نعلن عن حبنا بكل صدق وفرح وسعادة، فنحن نعلن عن غضبنا بقوة تصل في بعض الأحيان إلى العنف، وقد يكون الغفران وسيلة لمواجهة هذا الشعور والحد منه، لكننا في الحقيقة نغفر ظاهرياً، ونبقي الغضب مستعراً داخلياً، لذا محظوظ هو من استطاع أن يعفو ويغفر ويسامح.
إن الموقف الذي تعرضت له صديقتي ورد فعلها غير المنطقي هو في الحقيقة حدث نشاهده ونسمعه كل يوم في منازلنا وأحيائنا ومجتمعنا، أغلب الناس تدعي فقط أنها سامحت وغفرت الإساءة، ولكنها وفي أول فرصة يتاح لها رد الأذى تسارع في الانتقام، وبقدر ألم الإساءة سيكون الرد، قلة من الناس لديها القدرة على الاستمرار وقلبها يملأه التسامح والغفران، تلك القلة هي التي أدركت أن الإنسان متغير غير ثابت المواقف ولا التفكير، هذه الفئة تعلم جيداً إننا أيضاً نخطئ ونأمل أن يُعفى عنا، وتُغفر لنا هفواتنا، تؤمن أن ما يحدث الآن سيكون ماضياً بعد لحظة، وإننا إن أثقلنا قلوبنا بكل ألم نمر به لن نستطيع مع الوقت أن نسير للأمام فمن يمشي حراً طليقاً ليس كمن يمشي وهو يحمل على رأسه كيساً من الأحجار الثقيلة.
الخلاصة: أعلم جيداً أن العفو والغفران ليس بالأمر الهين علينا نحن كبشر لذا عندما أمرنا الله به جعله باباً من أبواب رضاه ورحمته، ووعد من يعفو ويغفر بمقابلة ذلك بجزيل العطاء، وإن دل ذلك على شيء، فإنه يدل على مقدار الجهد الذي علينا أن نبذله في سبيل التخلص من شعور الغضب والظلم الذي يتملكنا حين نتعرض للإساءة، في الحياة نواجه وسنواجه كل يوم أشخاصاً من حولنا غلبتهم ظروفهم ونفوسهم، فلم يعرفوا طريقاً غير الإساءة سبيلاً كن أنت في هذا الطريق النور الذي يرشدهم ولا تكن مجرد أداة تُعبد لهم طريقهم ليستمروا في الإساءة إليك، وتستمر أنت بدورك في مسامحتهم والدعاء عليهم!
0 تعليق