تشكل تجربة الشاعر الفلسطيني السوري غياث المدهون، فرقا واضحا في الشعرية الفلسطينية، فهو لا يعترف بما سبق من شعر رغم قراءته له، وليس لديه فضول لأن يعرف ماذا سيصير الشعر في المستقبل، هذا شعر قادم من الآن، من السخط والرغبة في تكسير كل مرآة من الحب المخنوق وعبثية كل شيء، حالة هيجان وفوضى جميلة يمثلها شعر غياث الذي فر من سوريا أوائل الثورة بحثا عن حرية الكلام والصراخ والفوضى، آخر كتب فوضوي الشعر والحياة هذا الكتاب الذي بين أيدينا الصادر عن دار المتوسط، بقطع متوسط مائة وستين صفحة، من القطع المتوسط والذي كتب على غلافه هويته محددا إياها بصرامة: نصوص وهوامش، هذه نماذج منها:
(خلال الانتفاضة كنا نأخذ قطعا صغيرة من فلسطين ونرميها على الجنود الإسرائيليين فيهربون وكنت أتساءل منذ كنت طفلا: لماذا يهربون حين نرمي عليهم قطعا من أرض الميعاد؟). (الأمل يعني أن نحارب طواحين الهواء ليس كما يفعل دون كيخوتي لا فدون كيخوتي كان يحارب طواحين الهواء معتقدا أنها شياطين بأيد كبيرة. الأمل هو أن تفعل مثلي، أن تحارب طواحين الهواء وأنت تعلم تماما أنها طواحين هواء). (كيف لامرأة أن تكون واضحة كالاحتلال وحزينة مثل سوريا وجميلة كالأمنيات؟).
في نصوص غياث، يحضر اليأس بكثرة مع التاريخ وتنهض الجغرافيا مع الألم والرياضيات مع الخوف وتغني الفلسفة وتطل السياسة برأسها وتنفجر المعارف كلها، ليس لديه مشكلة مع أي معرفة ترغب بالدخول إلى نصوصه، نصوصه مفتوحة الأبواب لكل من يطرقها، بشرط واضح أن يضيف إلى ما قبله ما يغني نصه لا ما يسطحه، المسألة إذن ليست عبثية، غياث المدهون ليس شخصا يهذي، ولا يقول شيئا دون سياق، ودون دراسة، هو يعرف ماذا يكتب وكيف يكتب، وما السهولة القشرية التي تبدو عليه نصوصه سوى خدعة يكمن بها لقرائه المستعجلين. فلسطين ليست موجودة بصورتها المعتادة، لا تتوقع أن يقول لك غياث إن فلسطين أجمل بلد في العالم، ليس لأنها ليست كذلك، بل لأنه لم يجهز بعد جملته التي سيصفها فيها، ولا يريد أن يمشي على خطى واصفيها المبتذلين، غياث عدو الابتذال، لا يطيق أن يكتب مثل الآخرين، كما هي حياته، تماما لا يستطيع أن يحياها مثل الآخرين، الشعر الفلسطيني بشكل عام لا يستطيع مجاورة نصوص غياث، أكاد أتخيل محمود درويش وهو ينصح غياثا بالهدوء والتنفس بشكل أعمق، وتخفيف الغضب، وبالاتساق الشعري أو الانتظام في الشعور واحترام وزن العبارة وإيقاعها، هذا لا يعني أن محمود درويش على خطأ، ربما يكون محقا، وله الحق في تبني نسق شعري معين، كما يحق لغياث ذلك، وهناك وجهات نظر حداثية هامة ومثقفة يمكن أن تبرر رفض نصوص المدهون، وتشرحه بالتفصيل، فكل نص من هذا العالم من حق كل شخص تذوقه بطريقته، كذلك شاعرنا يستطيع أن يرفض أنساق الآخرين، كما يفعل الآن بالكتابة والحياة. الكثير من النقاد والمتابعين يتابعون تجربة المدهون بكل حماسة، معتبرين أن الفوضى الظاهرية سحرية، وأن الحرية التي يمتشقها الشاعر مثيرة وتحرر القارئ المكبل بالوزن والمثل الشعرية التقليدية، داخل النص المدهوني يمور حزن وجودي، ويأس بطل، هذا اليأس الشعري الذي يتميز به الفلسطينيون، بالكتابة وبالحياة.
الشاعر في سطور.
غياث المدهون، فلسطيني سوري سويدي، من أصل غزي، مواليد الشام 1979، عاش في مخيمات سوريا، تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات منها السويدية والألمانية واليونانية والإيطالية والإنجليزية والهولندية والفرنسية والإسبانية والتشيكية والكرواتية والألبانية والإندونيسية والفارسية والصينية.
صدر له مؤخرا كتاب نصوص وهوامش: (لقد أحضرت لك يدا مقطوعة،) عن دار المتوسط الإيطالية العربية.
0 تعليق