لو أُتيح لنا أن نصغي إلى لغة الجمادات، أو نسمع نبض الأشجار، أو أن تترجم لك أصوات حركة الكواكب والنجوم، لسمعنا تسبيحا لا ينقطع، وتقديسا لا يخبو، فالكون من حولنا لا يعيش في صمت، بل هو منشغل بمهمة عظيمة خلِق لأجلها، وهي تسبيح الله وتمجيده وتقديسه، والتي تقع ضمن العبادة التي أوجدنا الله من أجلها في هذه الحياة الدنيا، فالإنسان لم يخلق عبثا، بل خلق لأجل أن يشارك هذا الكون تسبيحه، ويحقق الغاية التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله والاستجابة لأمره.
ومن تمام لطف الله وكرمه أنه دلنا عليه، وعرّفنا بجلاله وعظيم سلطانه، ودعانا لما فيه صلاح دنيانا وآخرتنا، فأمرنا بالتقرب إليه بصنوف الطاعات، وأنواع القربات ومن أبرز تلك القربات التي تكرر ذكرها في كتابه العزيز عبادة التسبيح، والتي هي تنزيه الله عن كل نقص، وذكر كمالاته، وتمجيده بما هو أهله، وقد أخبرنا الله عز وجل أن جميع المخلوقات تسبّحه وتقدّسه، كما قال تعالى في أوّل سورة الحديد:«سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، فهذه الآيات تفتتح بالتسبيح، ثم تمضي تُعرّفنا بالله وصفاته وكمالاته، مما يجعل التسبيح حقا واجبا علينا نتيجة للمعرفة الغيبية التي أطلعنا الله عليها في بقية الآيات في هذه السورة فقال عز وجل: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)»، فكل هذه الآيات تستعرض كمالات الله وقدرته وتخبرنا عن أمور غيبية أراد الخالق من عباده أن يطلعوا عليها لكي يكون تقديسهم له على علم بقدرته وملكه وملكوته، كما بين الله الآيات الدالة عليه، من الإحياء والإماتة، والخلق العظيم المتمثل في السماوات والأرض ومعرفته بكل ما يقع فيهما، وحركة الليل والنهار، فكل هذه الأمور تجعلنا نمعن في تقديس الله وتسبيحه والتفكر في خلقه.
ولو تأملنا أهم عبادة أمرنا الله بها، وهي تمثل عمود هذا الدين، وهي الصلاة، لوجدنا أن أهم أركانها وهما الركوع والسجود، هو عبارة عن تسبيح لله، وفيها تتجلى صفة العبودية الخالصة لله عز وجل، فعندما يضع المخلوق جبهته -هذا الجزء الذي يمثل الكرامة- في أخفض موضع يمكن أن تصل إليه على الأرض، وهو بأكمل إرادته، ويسبح الله بقوله «سبحان ربي الأعلى» فإنه بذلك يقدس الله وينزهه عن كل نقص، فهو بذلك يمثل الانقياد التام لخالقه، وقد ذكر المفسرون أن من ضمن معاني التسبيح الواردة في القرآن الكريم هي الصلاة، لما تمثله هذه الصلاة من تنزيه لله عز وجل وتسبيح له.
ونجد في كتاب الله ذكرا مخصوصا لبعض مخلوقاته وتسبيحها له عز وجل من أمثال الجبال والطير والنجوم، وقد بين العزيز الحكيم أن أشرف مخلوقاته وأعظمها تسبح الله عز وجل، وهم الملائكة، فأراد الله بنا أن نتعالى على صفاتنا البشرية التي يقع منها الخطأ والمعصية، إلى أن نرتقي بذواتنا إلى الصفات الملائكية التي لا تعصي الله وإنما تأتمر بأمره، فأمرنا بالتسبيح، وكما هو معلوم في علوم تزكية النفس أن الإنسان عندما يقع في الذنب فإنه يتوب ويستغفر، ويسمون مرحلة التوبة من المعاصي بـ«التخلية» وهي أن يتخلى الإنسان عن الذنوب والمعاصي وذلك من خلال الاستغفار من الذنوب، ومجاهدة النفس وتعويدها على الطاعة، وعندما تصل أنفسهم إلى مرحلة استئناسها بالطاعة ونفورها من المعصية يصلون إلى مرحلة تسمى«التحلية» وهي أن يتحلى بالطاعة والتقرب، وأن تكون النفس قرينة التسبيح والتقديس والتنزيه لله عز وجل.
فالاستغفار يكون من المذنب أو العاصي، وهو ذِكر يتعلق بالبشر، أما الملائكة المكرمون فإنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم معصومون عن الخطأ والزلل ولذلك كانت عبادتهم التسبيح، ومن كرم الله ولطفه أن جعل الملائكة لا يستغفرون لأنفسهم بل هم يستغفرون للمؤمنين، وإنا ذكرهم لأنفسهم هو التسبيح، وهذا يتبين من خلال الآيات الواردة فيها استغفار الملائكة للذين آمنوا فقد قال الله تعالى في سورة غافر: « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»، فحملة العرش الأربعة من الملائكة الذين يحملون أعظم مخلوق من مخلوقات الله عز وجل وهو العرش ومن حولهم من الملائكة المقربين، فإنهم يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرون للذين آمنوا، ويتوسلون الله لهم برحمته بأن يغفر للذين تابوا وأن يجنبهم عذاب جهنم، فأي كرم من اللطيف الخبير الذي سخر أعظم مخلوقاته لأن تستغفر لهذا الإنسان.
ويتكرر ذكر عبادة التسبيح للملائكة واستغفارهم للبشر في الآية الخامسة من سورة الشورى وهو قوله تعالى: « تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، فالملائكة لا يستغفرون لأنفسهم لاستحالة وقوعهم في الخطأ، ولكنهم يستغفرون لمن في الأرض من البشر المؤمنين التائبين، ولكنهم يسبحون بحمد ربهم، ويقدسونه.
ولو أتينا إلى السنة النبوية الشريفة لوجدنا الكثير من الأحاديث التي تحث على ذكر الله وتسبيحه، فقد ورد في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من الأسانيد قوله صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، وهذا الحديث يدلنا على أن هذا الذكر الخفيف على اللسان إلا أنه ذكر عظيم كثير الثواب وحبيب إلى الله عز وجل، فما أجدرنا أن نتقرب إلى المولى عز وجل بما يحب، حتى ننال رضاه ومحبته وقربه.
كما أن الله عز وجل عندما ذكر بيوته وهي المساجد امتدح عمارها من الرجال الذين يسبحون الله فيها بالغدو والأصال فقال في سورة النور: « فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ»، فالله عز وجل دعانا إلى أذكار الصباح والمساء، وقد أمرنا بها وحضنا عليها لما فيها من الخير العظيم والجزاء الوفير، ولأجل أن يحفظنا بها فقال تعالى أيضا في سورة الأحزاب: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)»، فينبغي على الإنسان أن يكون حريصا على أذكاره من خلال تسبيحه لله عز وجل في كل وقت وحين، وأقل ذلك أن يكون له ذكر مخصوص في وقت مخصوص، يمثل العلاقة الخاصة بين العبد وربه، يتزلف فيها بذكره، فضلا عن عبادة الله وذكره في كل وقت حتى يصدق فيه قول رسول الله بأن يكون لسانك رطبا بذكر الله.
0 تعليق