دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- قبل أكثر من 150 عامًا، كانت النساء الثريّات من جميع أنحاء العالم يقصدن العنوان التالي: 7 شارع "la Paix" في باريس، حيث كان مصمّم الأزياء الراقية تشارلز فريدريك وورث يُبدع لهن أرقى التصاميم.
واستمرّت دار الأزياء التي تحمل اسمه، والتي تأسست العام 1858، لثلاثة أجيال بعد وفاته في العام 1895.
ويُعد وورث، الذي يُنسب إليه على نطاق واسع من قبل المؤرخين لقب "أب الأزياء الراقية"، أول مصمّم أزياء يُعرف باسمه، وليس بشهرة زبائنه. واكتسب شهرة عالمية، وساهم في صياغة أسلوب تسويق الأزياء وارتدائها. ويُوثّق إرثه الآن في معرض جديد بعنوان "وورث: ابتكار الأزياء الراقية"، الذي يستمر حتى 7 سبتمبر/ أيلول في متحف القصر الصغير (Petit Palais) للفنون في باريس.
ويأتي هذا المعرض بالتعاون بين متحف القصر الصغير ومتحف "Palais Galliera"، ويُعتبر أول معرض استعادي شامل لدار وورث يُقام في فرنسا، والثاني عالميًا بعدما أقيم آخر معرض له قبل أكثر من 60 عامًا في متحف بروكلين بنيويورك. ويتزامن هذا الحدث السنة مع الاحتفال بمرور 200 عام على ميلاد وورث.
يضم المعرض أعمال الدار منذ تأسيسها وحتى عشرينيات القرن الماضي، حين كانت أيقونات المسرح والغناء، مثل سارة برنار ونيلي ميلبا، يرتدين تصاميم وورث على خشبة المسرح وخارجها.
ويَعرض كذلك عدد من المقتنيات الفنية والتصاميم التي تعود لعائلة وورث، منها حاجز فني مطلي بالأسود من إبداع فنان ومصمم الفن الزخرفي (الآرت ديكو) الفرنسي جان دوناند، وسلسلة من الصور الفوتوغرافية العارية لجان تشارلز، حفيد وورث الأكبر، بعدسة الفنان البصري الأميركي مان راي.

أُدرجت العطور أيضًا في المعرض، حيث يمكن للزوّار استنشاق نسخة معاد ابتكارها من عطر "Je Reviens"، وهو عطر زهري ناعم وخفيف من توقيع وورث. وقد قامت مؤسسة Osmothèque، التي تعد أكبر أرشيف للعطور في العالم، ومقرها فرساي، بإعادة تركيب هذا العطر خصيصًا للمعرض.
وكان أُعيد إطلاق العطر رسميًا في العام 2005، على يد صانع العطور موريس بلانشيه، ولا يزال يُباع حتى اليوم. ويضم المعرض أيضًا زجاجات عطر وورث أصلية من تصميم الفنان رينيه لاليك.
وبحسب رافاييل مارتن-بيغال، وكبيرة أمناء التراث في قسم اللوحات الحديثة بمتحف القصر الصغير، فإن بعض الأزياء المعروضة هشّة للغاية، لهذا السبب لن يتم نقل المعرض إلى خارج فرنسا.
المصمّم أدرى

ولد وورث في إنجلترا العام 1825، حيث تلقى تدريبه لدى اثنين من تجار الأقمشة قبل أن يتجه إلى باريس للعمل لدى متجر الأزياء "Maison Gagelin" كبائع وخيّاط، حتى ترقّى ليصبح شريكًا في العمل. وبعد ذلك، أسّس دار الأزياء الخاصة به التي حملت في البداية اسم "Worth and Bobergh" (وورث وبوبيرغ)، نسبةً إليه وإلى شريكه في العمل، أوتو بوبيرغ، وهو رجل أعمال سويدي.
حدد وورث ما ينبغي أن ترتديه النساء، ليس من خلال ابتكار أشكال جديدة للأزياء، بل عبر تغيير نموذج العمل القائم. اليوم، تُقام عروض الأزياء الراقية مرتين في السنة، حيث يقدّم مصمّمو الأزياء أحدث ابتكاراتهم ليختار الزبائن من بينها. لكن هذه لم تكن الحال دومًا.
قبل وورث، "لم يكن أمام مصممي الأزياء مجال كبير لابتكار تصاميم خاصة بهم"، وفق صوفي غروسيور، المديرة المؤقتة لمتحف "Palais Galliera"، والمنسقة العامة المسؤولة عن مجموعات النصف الأول من القرن العشرين. آنذاك، كانت النساء من الطبقة الأرستقراطية يقصدن المصممين محمّلات بالأقمشة وأفكارهنّ حول التصاميم التي يرغبن بها، وكان دور المصمم أن ينفذ ما طُلب منه. أما وورث، فكان له نهج مختلف، إذ كان يبتكر التصاميم ويعرضها، ومن ترغب بها يمكنها شراؤها. بذلك، تحوّل دور المصمم من مجرد منفّذ لرغبات الأثرياء إلى شخصية قيادية صاحبة رؤية، يُقبل عليها الزبائن ويثقون بذوقها لتوجيههم في ما يرتدونه.
وقد قال وورث ذات مرة لمجلة "Blackwood’s Edinburgh"، وهي دورية أدبية وسياسية، في العام 1858: "النساء يأتين إليّ لطلب أفكاري، لا ليفرضن عليّ أفكارهنّ".

وقالت غروسيور لـCNN: "وورث لم يكن بالضرورة يوافق دومًا على طلبات زبوناته". ففي دار "Worth and Bobergh"، كانت التصاميم تُنفذ مسبقًا، لكن كان بالإمكان إضافة بعض الزخارف مثل الأشرطة المنسوجة، والدانتيل، والزهور الاصطناعية. وكانت بعض الملابس قابلة للتعديل أو التركيب، إذ يمكن استبدال أجزاء منها مثل أطوال الأكمام لتناسب أوقاتًا مختلفة من اليوم.
نجمة الحفل

وقد بلغ الإقبال على تصاميم وورث ذروته خلال فترة الإمبراطورية الفرنسية الثانية (1852–1870)، حين كانت حفلات الأزياء الفخمة رائجة للغاية، وتعكس اللوحات المعروضة بمعرض القصر الصغير، مثل "أمسية" (1878) للفنان جان بيرو، فساتين من تصميم وورث ارتدتها الحاضرات في تلك المناسبات.
وقد تنوعت أزياء وورث بين الطليعية، مثل زي المظلة الذي صُمم العام 1925، ويشبه مزيجًا بين سروال واقٍ من الوحل ومظلة مقلوبة ومغلقة، وأخرى استوحت طابعها من التاريخ، مثل الفستان الذي استُلهم تصميمه من لوحة مارغريت تيريزا الإسبانية.
وبين أبرز الداعمين لوورث كانت الإمبراطورة أوجيني، زوجة نابليون الثالث، وإحدى أبرز رموز الموضة في أوروبا آنذاك، التي تعرّفت على وورث من خلال صديقتها المقرّبة الأميرة بولين فون مترنيخ، وكذلك من خلال فاليري فوييه، وهي زوجة الكاتب الفرنسي أوكتاف فوييه، وذلك بحسب كتالوغ المعرض.

ومع تأييد الإمبراطورة الفرنسية له، سرعان ما أصبح وورث الاسم الأبرز في عالم الأزياء. وكتبت مجلة "Le Monde Illustré" الفرنسية في العام 1868: "وورث سلطة بحد ذاته"، واصفة إياه بأنه "القوة المطلقة في أوساط الملوك حول العالم".
وتوسّع مشغل وورث بشكل ملحوظ، إذ ارتفع عدد العاملين فيه من أكثر من 500 موظف في ستينيات القرن التاسع عشر إلى ما يزيد عن ألف موظف في السبعينيات، وذلك في إطار سعيه لتلبية طلبات زبائنه، الذين كان من بينهم عدد من أفراد العائلات الملكية الأوروبية من فرنسا، وروسيا، والنمسا، وإسبانيا، والبرتغال، والسويد.
رغم ذلك، فإن الجزء الأكبر من أعمال وورث جاء من عملاء في مناطق أبعد، مثل مصر، والهند، واليابان، وهاواي. وشكّلت الطبقة الراقية الأمريكية، التي ضمت عائلات شهيرة مثل أستور، ومورغان، وفاندربيلت، مصدر دخل كبير للدار.
اختلاف الأذواق
ومع نهاية الإمبراطورية الثانية، انتهت أيضًا الشراكة بين وورث وبوبيرغ، إذ تشير الوثائق التأسيسية للشركة إلى أن مدة الشراكة كانت محددة بـ12 عامًا. ولا يُعرف الكثير عن بوبيرغ، لذا تبقى الأسباب الدقيقة لرحيله غير واضحة. لكن وورث واصل مسيرته بمساعدة زوجته ماري، وبعد ذلك بمساعدة ولديه غاستون وجان-فيليب.

ومع تحوّل النظام السياسي في فرنسا إلى الجمهورية الثالثة، تغيّرت الأذواق في عالم الموضة، إذ تراجعت موضة "الكرينولين" (التنانير المنفوخة) لتحل مكانها التنانير ذات البروز الخلفي. وقد واكب وورث هذا التغيير بتخفيف الطابع المتكلف والمبالغ فيه في تصاميمه. إلا أن تحديًا جديدًا سرعان ما برز في تسعينيات القرن التاسع عشر، حين رفعت الولايات المتحدة بشكل كبير الرسوم الجمركية على الواردات، ما أدى إلى فرض أحد أكثر التعريفات الجمركية تأثيرًا في ذلك القرن، وأصبحت أزياء وورث مكلفة جدًا للتصدير إلى السوق الأمريكية. وقد فتح ذلك الوضع المجال أمام المقلّدين داخل الولايات المتحدة لتقديم تصاميم مشابهة بأسعار أقل.
وفي محاولة لمواجهة هذه المشكلة، أسس وورث في العام 1868 "غرفة صناعة الأزياء الراقية" (Chambre Syndicale de la Haute Couture)، التي أصبحت لاحقًا "اتحاد الأزياء الراقية والموضة" (Fédération de la Haute Couture et de la Mode)، ولا تزال حتى اليوم الهيئة التنظيمية العليا لصناعة الموضة في فرنسا. وكان الهدف حماية تصاميم دور الأزياء الفرنسية من التقليد، وتعزيز مكانة باريس كعاصمة عالمية للموضة.

وقد وضع وورث معايير لا تزال تُعد اليوم من الأسس الراسخة في عالم الأزياء، مثل استخدام عارضات حقيقيات لعرض التصاميم (وكانت زوجته ماري أول من ارتدى تصاميمه على هذا النحو)، وتنظيم عروض الأزياء لتقديم المجموعات الجديدة. كذلك شرع في تصوير كل إطلالة من تصاميمه وتوثيقها باسم أو رقم مميز. وقد كانت هذه الإجراءات جميعها تهدف إلى الحد من عمليات التزوير والتقليد لتصاميمه.
0 تعليق