في العام 2035، أي بعد عشر سنوات من اليوم، يكون قد مر قرن كامل على تدفق قطرات النفط الأولى من أعماق الصحراء السعودية إلى العالم.
لكن القصة -السعودية الأمريكية- لم تكن نفطاً فقط، ففي العام 1945 التقى أقوى رجل في العالم حينها -الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، مع الملك عبدالعزيز بن سعود أقوى وأشجع رجالات القرن العشرين، رجلان قَادِمان من تجارب متشابهة منها شخصية؛ ومنها لبلديهما، وهو الأمر الذي سمح بتأسيس علاقات متميّزة استمرت لليوم.
اللقاء التاريخي بين الزعيمين -الملك عبدالعزيز وروزفلت- أسفر عن اتفاق شراكة طويل المدى أطلق عليه «كوينسي»، نسبة للسفينة التي جرى على سطحها اللقاء التاريخي.
لقد ضمن ذلك الاتفاق علاقات وطيدة بين المملكة الحديثة، وبين الولايات المتحدة الأمريكية الحديثة أيضاً؛ فكلتاهما تأسستا في تاريخ متقارب وتجارب متشابهة.
ولعل كثيراً من التقاطعات المهمة هي ما رسّخت العلاقة بين البلدين بدأت بارتياح بين الزعيمين الكبيرين، إضافة إلى كونهما قائدين محاربين قادا دولتيهما لانتصارات تاريخيّة، فالملك عبدالعزيز استطاع استعادة ملك آبائه وأجداده وهزم كل أعداء بلاده، وكذلك روزفلت الذي انتصر على أعداء واشنطن بدءاً من ألمانيا وليس انتهاءً باليابان.
الدولتان الجديدتان على الساحة الدولية وجدتا أنهما متشابهتان لحد كبير، فالسعودية بقيت طوال قرون تعيش خلف محيط من الصحاري والكثبان الرملية، وأمريكا أيضاً بقيت حتى لحظة الانتصار في معركة النورماندي، تعيش خلف المحيط الأطلنطي شبه معزولة عن العالم.
كان تحالف ضرورة حقق للدولتين استقراراً اقتصادياً، ومكانة سياسية، ونفوذاً عالمياً، شراكة ناضجة بنيت على احترام المسافات والفضاء الأمني والسياسي لكلتيهما، بل إن الأمريكان لطالما قدروا الصدق السياسي الذي يتميّز به السعوديون، وهو ما وصفه الأمير بندر بن سلطان السفير السعودي في واشنطن رئيس الاستخبارات الأسبق قائلاً: إن الأمريكان وخاصة الرؤساء يكتشفون بعد وصولهم للبيت الأبيض أن السعوديين صادقون جداً في تعاملهم، يقولون في الخفاء ما يقولونه في العلن، وهذا أمر لا يطيقه إلا شجعان السياسة الذين لا يتملقون ولا يدعون ولا يكذبون، وهي صفات العرب الأقحاح القادمين من صحراء نجد، وقلّ أن تجدها في سياسيين آخرين تعودوا على التلون والكذب والخداع.
اليوم ينتقل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من واشنطن إلى عاصمة القرار الإقليمي الرياض في أول زيارة خارجية له بعد عودته للبيت الأبيض، ليؤكد للعالم أن الرئيس روزفلت الذي سبقه بتسعة عقود عندما أراد العبور للعالم الجديد -حينها- مر من باب «الرياض»، وها هو دونالد ترمب يعبر أيضاً من بوابة «الدرعية» لعالم القرن القادم.
لا شك أن العالم الآن في حالة تشكّل سياسي، وإعادة ضبط «المصنع الاقتصادي»، ولا شك أن دولة كالسعودية بحجم ناتجها القومي وتطور أدواتها الاقتصادية، وثقلها النفطي، ومكانتها العربية والإسلامية، ستكون شريكاً لا غنى عنه في المئة سنة المقبلة، كما كانت في المئة سنة الماضية.
في السياسة لا يوجد توافق على كل القضايا، وبالتأكيد حصلت بعض الافتراقات بين واشنطن والرياض في الأفكار والأهداف والنتائج، كما كانت المصالح في كثير من الأحيان متطابقة، لكن بنية العلاقة المتينة، وخاصة بين المؤسسات العميقة، حمت تلك العلاقة وحافظت عليها وأبقتها صلبة وجادة ومتعاونة.
لو طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب محاضر لقاءات القادة السعوديين ونظرائهم الأمريكان منذ عهد الملك عبدالعزيز ومن بعده أبناؤه الملوك وصولاً إلى الملك سلمان اليوم، لوجدها متشابهة جداً، كثيفة بالاحترام المتبادل، وتقدير الدور الأمريكي والسعودي في الإقليم والعالم، وسيجد فيها كذلك استقلال القرار السعودي، إنها محددات ضمنت للبلدين علاقات وثيقة ومستدامة.
دونالد ترمب القادم من تجربة مهمة مع السعوديين خلال فترة حكمه الأولى سيكون بلا شك أكثر فهماً للمواقف السياسية السعودية، ولعل المبادرات التي قام بها والتي سبقت وصوله تدل على إدراكه للثقل السعودي في كل الملفات، فضلاً عن أن هناك إشارات عديدة تقول بأن السيد دونالد ترمب غداة وصوله للرياض سيعلن عن اعترافه بدولة فلسطينية -استناداً إلى مصادر دبلوماسية خليجية نقلتها صحيفة جيروزاليم الإسرائيلية.
ولعلنا نتذكر أنه وقبل ثماني سنوات اعترف ترمب نفسه بالقدس عاصمة لإسرائيل، يا لها من مفارقة كبرى، لقد أصرت الرياض طوال السنوات الماضية على أن الاعتراف بدولة فلسطينية هو مفتاح الحل لأكثر القضايا تعقيداً في العالم، وبذلت الكثير من الجهود من أجل تلك اللحظة، وسيكون إنجازاً سعودياً كبيراً جداً قدمته المملكة بقيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان لفلسطين، يذكّرنا بالإنجاز التاريخي الذي قدمته الدبلوماسية السعودية على يد الملك فهد بن عبدالعزيز للفلسطينيين، عندما انتزع اعتراف الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للفلسطينيين، ونزع عنها تهمة الإرهاب.
إننا أمام 100 عام من قصة العلاقة السعودية الأمريكية التي تستحق أن تروى، أنجز فيها البلدان الكثير من النجاحات التي أثّرت على مستقبل العالم، قوامها سياسة سعودية لا تتراجع عن مبادئها المتوارثة منذ الملك عبدالعزيز الذي أرسل رسالته الشهيرة إلى الرئيس فرانكلين روزفلت 1945، مؤسساً لدستور العلاقات السعودية الأمريكية القائمة على الاحترام والشراكة والمصالح المتبادلة.
أخبار ذات صلة
0 تعليق