هل يساعدنا مصطلح «سحابة الفاشية» على فهم اليمين المتطرف ومقاومته؟

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في الشهر الماضي، وبعد أسابيع قليلة من الاعتقالات العشوائية وحالات منع عبور الحدود الأمريكية، كان يفترض أن أذهب إلى جامعة برينستن محاضِرةً زائرة لمناقشة الفاشية العالمية. سألت الأساتذة الذين وجهوا لي الدعوة عما إذا كانوا يرون حضوري آمنا. وحينما كنت في تركيا، كان أصدقائي من الصحفيين الأوروبيين يطرحون ذات يوم سؤالا مماثلا عما إذا كانوا سيتعرضون للاحتجاز. وبالضبط كما كنت أفعل معهم، تردد الأساتذة الأمريكيون غير ناطقين إلا ببعض جملة: «يعني، كما لا يخفى عليك...». وتقرر إشراك شركة قانونية في الأمر. وبعد بعض المداولات، كان التقدير النهائي مبهما على نحو مثير للقلق: «الاحتجاز مستبعد، لكن لا يمكن أن نقطع بذلك». وأخيرا، وتحرِّيًا للأسلم، لجأنا إلى خيار الإنترنت.

في النهاية، سارت الأمور على ما يرام ظاهريا، لكنني أعلم من انتمائي إلى الجانب الآخر في هذه القصة أن الخيط الحريري الرابط بيننا نحن البشر قد انقطع. فهم شعروا أن أرضهم باتت أظلم بعض الشيء، وأنا شعرت بالتخلي عن أولئك التعساء في ذلك الوقت العصيب. وفي النهاية، يجدر بمثلي أن تعلم: على هذا النحو ينحدر بلد إلى الظلام، لا بأوامر من دكتاتور وإنما بتخلي العالم الخارجي عن شعب هذا البلد، وتركه وشأنه، بقطع ملايين الخيوط التي تربطنا ببعض في إنسانية واحدة.

في الوقت نفسه، رأينا أن ما بدأ بوصفه عبثا صادما ـ من قبيل منع دخول أكاديميين ومثقفين وبشر عاديين أو الزج بهم في السجن لأسابيع إثر تفتيش هواتفهم ـ سرعان ما تحول إلى الطبيعي. بات غير المقبول بسرعة بالغة هو الطبيعي، فبعد أسابيع قليلة من الأزمة الحدودية، بدأ الاتحاد الأوروبي يوزع على العاملين فيه هواتف جديدة رخيصة عند ذهابهم إلى الولايات المتحدة.

ونبهت بعض البلاد الأوروبية مواطنيها المثليين إلى توخي الحذر عند زيارة الولايات المتحدة مستعملة نبرة شبيهة بنبرة موقع (المستشار السياحي -Tripadvisor). وهكذا بدأ الهزل دونما تحذير ليستمر في عشوائية مطلقة. إذ يصادف الناس متاعب كالتي وصفت في التقييم الذي حصلت عليه للصعوبات المحتملة: «مستبعد لكن دونما تأكيد». وفي هذا الإبهام المثير للقلق تكمن سمة فريدة في فاشية زماننا.

يحاول كثير منا نحن المفكرين والسياسيين أن يتوصلوا إلى مصطلح جذاب لفاشية زمننا.

ولقد بات يخطر لي أن في جوهر تلك المحاولة لا تكمن فقط الرغبة في التحليل وإنما الدافع أيضا إلى لفت أنظار الناس ليحذروا الحذر الواجب. ولعل دافعا إنسانيا للغاية هو الذي يدفعنا إلى هذا التفكير: «لو أننا عثرنا على الكلمة الصحيحة، فسوف يتمهل الناس وينصتون. ولعلهم من بعد ذلك يفعلون شيئا».

والواقع أنها هي نفسها الفاشية القديمة، لكنها تتزين بنظارات جديدة وأجهزة براقة، فالأمر أشبه بنسخة محدثة من تطبيق أضيفت إليه خصائص جديدة. ومن هذه الخصائص الجديدة في فاشية القرن الحادي والعشرين أنها أشبه بالسحابة. ففي النهاية، هي ابنة سياسية للرأسمالية السحابية.

صيغ المصطلح على يد السياسي والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس. فهو يقول إن لدينا نظاما اقتصاديا جديدا استبدلت فيه شركات التكنولوجيا الضخمة ـ التي تعمل من السحاب ـ المنصات والإيجارات بأعمدة الرأسمالية التقليدية من قبيل الأسواق والربح. من خصائص هذا النظام خلق إقطاعيات رقمية يعمل فيها أفراد، أو إقطاعيون، لصالح هذه المنصات. فالأمر أشبه بالعصور الوسطى، ولكن في نسخة تكنولوجية. وبطبيعة الحال لا يلقي الناس أنفسهم في هذا النمط الجديد من العبودية، ولكن الأمور تجري في الظاهر كما لو بدافع من النظام الطبيعي.

يكشف مصطلح «السحابة» الكثير عن واقع العالم الراهن. فما في هذا النظام من سمات سحابية من قبيل الغموض والسيولة والانزلاقية ـ وحضوره في كل مكان وفي لا مكان في الوقت نفسه ـ شبيه تماما بحركة سحب العواصف. فهو الآن في تركيا، يعمل من خلال زج رجب طيب أردوغان بمنافسيه السياسيين في السجن، وهو الآن في إسرائيل يعمل بتجويع الأطفال الفلسطينيين. وبعد ظهوره على سواحل إيطاليا ليرد المهاجرين إلى البحر الذي أقبلوا منه، يظهر مرة أخرى، وعلى حين غرة، في الولايات المتحدة على أرض جديدة متجسدا هذه المرة في شرطة الحدود. فلسحابة الفاشية أياد لا حصر لها تقترف جرائم لا يمكن التنبؤ بها وعلى نحو عشوائي، فنحاول جميعا أن نجاريها ونتكيف معها. وأن نتعايش معها شأن الإقطاعيات السحابية. ولا تكاد تمضي فترة قصيرة حتى نفقد قدرتنا على الشعور بالصدمة، فنتقبل السحابة على مضض، وكأنها باتت الآن ظاهرة طبيعية لا بد من أن نتعايش معها. وكأنما هي سحابة موجودة بلا نزاع. فكل ما عليك ألا تصطحب هاتفك معك إلى الولايات المتحدة. اشتر واحدا جديدا رخيصا. وليس ذلك بالأمر العظيم. وبما أن هناك سحابة، فاشتر مظلة، وأسرع في سيرك عند المرور بمن لا يحملون المظلات.

أطلق البابا فرانسيس الراحل على هذا الموقف السحابي وصف «اللامبالاة العالمية». وكان كثيرا ما يشير إلى كرامة الإنسان باعتبارها خط الدفاع الأخير للأخلاق الإنسانية في مواجهة إهانات واقعنا السياسي والاقتصادي الحالي. وحسب فهمي، لم يكن البابا يقصر كلامه فقط على كرامة الفقراء التي يمتهنها غياب المساواة. فالكرامة، بما هي قيمة إنسانية توحدنا جميعا، قد تتضرر عبر العديد من الطرق الأخرى. فالقادرون على الحصول على مظلات لحماية أنفسهم من الفاشية السحابية، والممتنعون عن الاحتجاج الذين يشترون هواتف جديدة، هم جميعا أهينت كرامتهم أيضا، وإن أرغموا قلوبهم على ألا تشعر بهذا. لم يتوقف البابا الراحل عند الإشارة إلى كرامة الإنسانية المهانة، بل ألمح إلى المقاومة المدنية حينما قال إنه حينما لا تكون القوانين جيدة بالقدر الكافي، يمكن أن يعارضها المرء بأن يلتزم بصف الصالح العام.

وأخيرا، في فيلم ويم ويندر الوثائقي عن البابا، قال: «الثورة. لا تخشوا الكلمة». هذه كلمة ظلت لبعض الوقت مشفوعة بابتسامة ساخرة أو إشارة سخرية واضحة حتى في الأوساط الثقافية التقدمية. تلك السخرية علامة فقداننا الاسمين بالإنسانية وعلامة بدء إذعاننا لأشد السحب دكنة. في حين ارتسمت على وجه البابا ابتسامة عريضة وهو ينطق الكلمة، فيا له من فارق كبير.

سحابتنا هذه، سحابة الفاشية، تنتقل في أرجاء الكوكب، تغرقنا بالمطر الحمضي. غير أنه مع كل ظهور لها في بلد، يتصرف أهل الأرض وكأنها المرة الأولى التي يشهدون فيها ذلك. وتكرار الدهشة علامة على بدء تراجعنا، وإيماننا بأن مظلة كبيرة بالقدر الكافي، ومصنوعة من أجل بلدنا دون غيره، قادرة على وقايتنا، وهذا أول بزوغ للهزيمة. فالمسألة هي هذه: هل سنطرد هذه السحابة قبل الاستسلام الأخير؟ إن ما يحول بيننا، أي بين الإنسانية، وبين السحابة الداكنة، ليس إلا مسألة إيمان. لا بالله بالضرورة، وإنما بكيان من الفرحة السماوية يتجسد حينما يجتمع الناس للدفاع عن كرامتهم، في سحابة مقاومة عشوائية وسائلة ولا يمكن التنبؤ بها، بقدر سحابة الفاشية. فلا يقدر على منع المطر الحمضي إلا سحابة مقاومة باسم الكرامة الإنسانية تكون في كل مكان. ولست أدعو إلى ثورة، ففي نهاية المطاف، أنا لست البابا، عسى أن يرقد في فرحة وكرامة.

إيجي تيميلكوران صحفية تركية ومعلقة سياسية صدر لها كتاب «كيف تفقد بلدا: 7 خطوات من الديمقراطية إلى الدكتاتورية».

عن صحيفة الجارديان البريطانية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق