ختمنا مقال «الهوية جدل المبنى والمعنى» بالقول إن الهوية الحداثية تعبّر عن إرادة الإنسان، في حين أن الهوية التراثية تعبّر عن قدره ووجوده الذي لا طاقة له في تغييره، لكن السؤال التلقائي هنا هو ما الداعي للحديث عن الهوية إن كانت البشرية قد عاشت آلاف السنين قبل عصر الحداثة دون الحاجة إلى الحديث عن الهوية، وما الضرورة التي دفعت بالإنسانية إلى اجتراح مفهوم فلسفي جديد يضاف إلى أرتال المفاهيم الملغزة في الفلسفة والفكر الإنساني.
لقد أدى التغير الهائل في بنية المجتمعات الأوروبية من الآبائية المتمثلة في سلطة الأب ومرجعية الكنيسة وشمولية الملك إلى حرية الفرد وتشريع البشر والديمقراطية إلى تفتت القوى القديمة، وإعادة تشكل لقوى جديدة، ومن بين هذه القوى كانت الأقليات الدينية مثل اليهود، أو العرقية كالسود، بالإضافة إلى النساء والشواذ جنسيا، حيث أدرك أفراد هذه الجماعات الانقلاب الثقافي والأخلاقي الهائل الذي تعيشه المجتمعات في عصر الحداثة، وأنه بإمكانهم الاستفادة من الديمقراطية في حشد قواهم من أجل تغيير التشريعات القديمة التي كانت تزدريهم وربما سببت لهم الظلم والألم.
اضطرت هذه الجماعات إلى إنتاج خطاب يوحد أفراد المجموعة تحت قائمة من محددات الانتماء إلى المجموعة، ومحددات الانتماء هذه هي ما بتنا نصطلح عليه اليوم بالهوية، وقد خاضت هذه الجماعات صراعا فكريا من أجل تأكيد أفكارها وحضورها وتغيير التشريعات بحيث تنصفها أو في بعض الأحيان تتحيز لصالحها كما هو حال اليهود الذين صاغوا قوانين «حماية السامية» بعد الحرب العالمية الثانية، بينما ظلت النساء والسود في نضالهم السياسي والاقتصادي طوال مرحلة الخمسينيات والستينيات، ولعل الشواذ جنسيا كانوا الأبطأ في اكتساب حقوقهم حيث ظلت قوانين تجريم الشذوذ الجنسي في الولايات المتحدة إلى عام 2003، بيد أن ما حظيت به من تشريعات لا تزال تواجه كثيرا من العراقيل في التطبيق بسبب غلبة روح التحيز الديني والعنصري القارة في النفس الغربية.
أما بالنسبة للمجتمعات غير الغربية، فضرورة الهوية لديها أدركته الدولة نتيجة تأثير العولمة، ومحاولات الأمركة الثقافية التي تقوم بها المؤسسات الإعلامية الأمريكية من خلال السينما، وبرامج الأطفال، والأغاني، والأزياء وغيرها، الأمر الذي صار مهددًا للثقافات الوطنية للدول، ومؤثرا بشكل كبير على كثير من العادات الاجتماعية مثل تأخير سن الزواج، والصناعات التقليدية التي تنتج الأزياء التقليدية التي تم استبدالها بالأزياء الأمريكية المستوردة، ومصانع الأكلات الشعبية التي أزاحها ماكدونالدز، ومصانع الآلات التقليدية التي أغلقتها محلات استيراد الطبل الأمريكي والجيتار.
بالإضافة إلى أن روح القومية التي صاحبت حروب الاستقلال في القرن العشرين، فرضت على كثير من المجتمعات هوية صارمة دون التفات إلى الهويات الصغيرة المتمايزة التي تتشكل منها هذه المجتمعات، وخاصة في الدول ذات التركيب الإثني والطائفي واللغوي المتنوع، الأمر الذي أدى إلى شعور أبناء هذه الأقليات بالتهديد الوجودي لثقافاتهم وانتماءاتهم، ما دفعهم إلى تبني خطاب هوياتي مضاد لهوية الأكثرية الذي تتبناه الدولة.
فهل الهوية ترف أم ضرورة؟ في مقالنا الأول أشرنا إلى أن مفهوم الهوية الجديد لم يظهر إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وقد عاشت الإنسانية قرونا طويلة قبل ذلك دون حاجة إلى هذه المفهوم ولا تبعاته النفسية والاجتماعية، ونضيف هنا إن الهوية كما يتم تقديمها اليوم هي في كثير من جوانبها ليست سوى مجموعة تصورات ورموز غير ذات معنى لدى كثير من الأفراد الذين يراد منهم تعظيمها وتبجيلها، كما أن تداخل المجتمعات البشرية نتيجة التطور في وسائل النقل والاتصال تحتاج إلى تسهيل عملية التواصل بين الشعوب بدلا من تكريس الاختلاف والتباين الذي يعوق هذه العملية، كما أن الهوية في كثير من جوانبها ليست سوى نتاج لخطابات القوى الاجتماعية النافذة، وهذه القوى سلطوية بالضرورة، وهي قائمة على إلغاء التنوع وعدم اعتبار تميز الفرد وخصوصيته، وخطاب الهوية عادة ما يكون خطابًا صلبًا وغير قابل للتعدد، بينما يعيش العالم بحسب الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان حالة من السيولة السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتطلب ليونة في خطاب الهوية، والأخطر من ذلك ما ذكره المفكر العربي أمين معلوف في كتابه «الهويات القاتلة» من أن الناس يشعرون بأنهم مرغمون على الاختيار بين الإلغاء الذاتي أو إلغاء الآخر، وبالتالي يؤدي خطاب الهوية إلى تشكيل جحافل من المسعورين الدمويين.
وجهة النظر السابقة تميل إلى اعتبار الهوية ترفا، لكن ما تطرحه من آراء ليست مغلقة، بل هي مفتوحة وقابلة للتفاوض والحوار، فالاهتمام بالهوية ليس بالضرورة سبيلًا إلى إعاقة التواصل الثقافي، بل هو مفتاح للتعارف ووسيلة للتقارب، لأن انعدام الهوية الخاصة يعني بالضرورة أن البشر مجرد نسخ ليزرية ملونة من بعضهم، بحيث يصبح البليد مثل الفريد، والصالح مثل الطالح، والفاضل مثل السافل، ما يؤدي إلى فشل المجتمعات وانهيار الدول وتفسخ الإنسانية، كما أن هناك تجارب استطاعت فيها المجتمعات الحفاظ فيها على هوياتها الفرعية ضمن الهوية العامة الجامعة دون تهديد للأقليات ولا تشويه لتاريخها، بالإضافة إلى أن الهوية في المفهوم الفلسفي ينبغي أن تكون قائمة على حرية إرادة الفرد واختياره الواعي لما يمثل تصوراته ورموزه واهتماماته.
بيد أن الدول لا يمكنها بحال من الأحوال إهمال موضوع الهوية، لأن الهوية الأمريكية تكتسح العالم وتهدد جميع الهويات الوطنية، وقد أقر الفيلسوف الأمريكي فريدرك جيمسون بهذه الحقيقة حين قال: «ثقافة ما بعد الحداثة هذه العالمية، ولكن الأمريكية في جوهرها، هي التعبير الداخلي والبنيوي لموجة جديدة كليا من الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأمريكية على مستوى العالم؛ ومن هذه الزاوية... فإن الجانب الخفي للثقافة هو الدم والتعذيب والموت والرعب»، وهذا الرعب ابتدأ بقض مضاجع الأوروبيين ذاتهم الذين، حيث أصدر البرلمان الأوروبي في عام 2013 قرارا يستثني الخدمات الثقافية من مفاوضات الشراكة التجارية مع الولايات المتحدة، بل حتى كندا التي لا تختلف ثقافيا عن أمريكا، اشترطت أثناء توقيع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية عام 1994 إدراج بند اسمته «الاستثناء الثقافي» الذي يسمح لها بدعم صناعتها الثقافية ضد التغول الثقافي الأمريكي.
لذلك يمكننا القول إن الهوية قد تكون مجرد ترف في حالات السلم والاستقرار، بينما تكون ضرورة وجودية في حالات الغزو والهيمنة الثقافية، والعالم اليوم يعيش لحظة تتفوق فيها أمريكا على جميع العالم في المجال العسكري والاقتصادي والثقافي والتقني، وقد أثبتت منذ لحظة انفرادها بالتفوق أنها ليست دولة مسالمة، بل هي دولة مهيمنة، تعتمد في سياستها على الغزو العسكري والاقتصادي، وهي تستخدم الثقافة لاختراق المجتمعات من أجل التلاعب بالأمزجة والعقول، وإخضاع إرادة الشعوب لغاياتها التي لخصها جيمسون في «الدم والتعذيب والرعب»، وهو ما رأيناه سابقا في فيتنام وأفغانستان، ونراه اليوم في غزة واليمن، من هذا المنطلق أرى أن قضية الهوية تمثل ضرورة وجودية لمجتمعنا، وهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا القادم.
0 تعليق