صدمات الطفولة: هل يشفي الكتمان جراح الماضي أم يضاعفها؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

عمان- الصندوق الأسود، هو ذلك الكيان الخفي الذي يسكن أعماق قلب وذاكرة كل إنسان، منذ الطفولة وحتى مراحل الحياة المختلفة. كثيرا ما يصعب على صاحبه البوح بما يحتويه أو كشفه للآخرين، ما قد يخلف لاحقا آثارا نفسية وأسرية متوارثة.اضافة اعلان
هذا الصندوق، الذي يختزن مزيجا من الكبت، الحزن، السعادة، المواقف المتشابكة، وآثار الصدمات النفسية العالقة في الذاكرة، دفع علماء النفس إلى تبني ما يعرف بـ"نظرية الصندوق الأسود" كوسيلة لفهم أعماق النفس البشرية، ودمجها ضمن خطط العلاج النفسي في العديد من الحالات.
  "الصندوق" الأسود الكامن في العقل
وفي هذا السياق، ألف أحد المختصين في علم النفس كتابا بعنوان "عقلية اللاصندوق الأسود"، تناول فيه مجالات تحسين الذات، الأداء، والسعي للنجاح. ويقارن المؤلف بين الصندوق الأسود في الطائرة، المعروف عالميا، وبين "الصندوق" الكامن في عقل كل شخص، موضحا " أن الصندوق عند وقوع أي حادث، سواء أكان خطيرا أم بسيطا، لتحليل بياناته ومساعدة الخبراء على اكتشاف ما حدث".
ويعتقد المؤلف أن "هذا المفهوم يجب أن نطبقه في حياتنا اليومية؛ فنتعلم من كل حالة فشل مررنا بها، ونعمل على تحليلها وتشريحها تماما كما يفعل الصندوق الأسود في الطائرة، بهدف تجنب تكرار الأخطاء وتفادي الفشل مستقبلا".
ويعتمد في طرحه على مصادر متعددة تشمل علم الإنسان، علم النفس، التاريخ، ونظرية التعقيد، للتنبؤ بطبيعة الخطأ البشري وفهم الاستجابات الدفاعية التي يلجأ إليها الأفراد عند ارتكاب الأخطاء.
"ليس كل ما نكتمه قادرين على البوح به"، تقول فاديا ربيع، ربة منزل مرت بالكثير من التقلبات في حياتها. وتضيف: "رغم كل ما مررت به، لا أملك القدرة على الإفصاح عن كل شيء. فكل شخص يرى مصيبته كأنها أكبر كارثة في الدنيا، لكن هذا لا يعني أن الآخرين سيظهرون لنا ذات التعاطف والدعم الذي نحتاجه. أحيانا يكون الصمت والكتمان ضرورة وليس خيارا ترفيا؛ بل وسيلة تساعدنا على الاستمرار في الحياة وتفادي الخلافات، سواء داخل الأسرة أو مع الأصدقاء”.
من جهة أخرى، يرى بشير، الذي بلغ العقد السابع من عمره، أنه رغم حياة الاستقرار التي يعيشها الآن مع أسرته الكبيرة، إلا أن هناك الكثير من الذكريات التي لا يستطيع نسيانها منذ طفولته وحتى مراحل حياته المختلفة. ويقول: "ما زالت هناك أحداث عالقة في ذهني تتعلق بوالديّ، رحمهما الله، وأخرى تخص إخوتي وأقاربي، مرت في حياتي وتركت ندوبا في قلبي ما تزال تؤلمني".
 آثار وندوب عميقة في حياة الشخص
وتجمع العديد من الدراسات النفسية والسلوكية على أن تلك المشاعر من الخوف والترقب والقلق التي تمر في حياة الطفل مرورا بالمراحل المختلفة من عمره من شأنها أن تترك آثارا وندوبا عميقة في حياته لها تأثيرات سلبية جدا تظهر من خلال سلوكه، ومزاجه العام، وردود أفعاله مع الآخرين وتفاصيل حياته المختلفة، وقد يصل إلى حد الاكتئاب المرضي، والأخطر أن تؤدي إلى الانتحار إذا لم يكن هناك مساندة وعلاج.
الاختصاصية والاستشارية الأسرية النفسية وعلم النمو، الدكتورة خولة السعايدة تقول إن صدمات الطفولة على اختلافها لها تأثيرات كبيرة تمتد لسنوات طويلة وقد تكون حتى أمد الحياة، وهذا ما يتطلب مساعدة حقيقية منذ البداية.
ولكن، تعتقد السعايدة أن هناك بعض الأحداث والمواقف التي تمر بطفولتنا قد يكون لها آثار، ولكن ليست بهذا الحجم والضرر النفسي، وهذا ما يتطلب من الشخص عدم الخوض بها والحديث عنها بشكل متكرر، بل يجب عليه تجاوزها بما أن حياته تسير بشكل طبيعي.
ووفق السعايدة، على الفرد ألا يستعيد ذكرى الأحداث الأليمة في حياته بين الحين والآخر، إذ إن المعنى الحقيقي لتصنيف تلك الأحداث يعتمد على مدى تأثيرها على حياة الفرد وسلوكه، وبما أنها لا تؤثر على ذلك فمن الأولى تركها والابتعاد عن تذكرها والحديث عنها.
 العلاج والدعم النفسي من مختصين
أما في حال كان هناك تأثير على مسار حياة الفرد وعدم قدرته على التجاوز، وبدا أن هناك مشاكل وآثارا نفسية وسلوكية لدى الشخص، هنا يستوجب التدخل، كما تقول السعايدة، قد تبدأ بالتفريغ والحديث عما يؤثر على نفسيته من أحداث، ومن المهم أن يلجأ الشخص إلى أحد المتخصصين في مجال العلاج والدعم النفسي ليجد ما يحتاجه من دعم.
وتؤكد السعايدة على أن البوح بشكل عشوائي لا يمكن أن يفيد الإنسان الذي يشعر بأثار صدمات في نفسه، إذ يمكن أن يكون المستمع شخصا جيدا ومتلقيا مناسبا، وربما يكون غير مناسب ولا يجيد الاستماع والدعم للمريض، وهذا ما قد يزيد الأمر سوءا ويكون هناك تأثيرات سلبية وردود فعل عكسية.
كما تنصح السعايدة من يقوم بـ"الفضفضة" بدون وعي أو دراية بأن يكون أكثر حرصا على أسرار وتفاصيل حياتهم القديمة، ولا يجعل حياته معلنة للآخرين ومستباحة، لذا يمكن أن يكون التأثير سلبيا أكثر مما هو إيجابي، خاصة أنه قد يسترجع صدمات الطفولة كما هي، بينما إن كان بوجود اختصاصي نفسي ومشرفين على حالته ويقومون بتوجيه بطريقة أفضل، في هذه الحالة يكون البوح والحديث مناسبا بالتأكيد.
وللكتمان أيضاً الكثير من الآثار السلبية في ذات الوقت، إذ ترى السعايدة أن الشخص دائم الكتمان ولا يلجأ للفضفضة والبوح، من شأنه أن يسبب لنفسه الكثير من الأمراض ذات الأبعاد النفسية والجسدية على حد سواء، كما في ظهور أعراض القولون العصبي والسكري والضغط، خاصة إن كان يكتم مشاعره على مضض.
وعبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي كتب أحد الأشخاص يقول " في داخل كل منا صندوق أسود يضم كل ما بقي ينزف في داخلنا ويحفر في أعماقنا، دون أن ندري، صندوق أسود مثل الذي يضم أسرار الطائرات ويسجل كل ما حدث في كابينة القيادة، والفرق أن الصندوق الأسود في الطائرات يعثر عليه بعد سقوطها، أما بالنسبة لنا فعلينا أن نعثر عليه كي لا نسقط".
هل الكتمان أمر خطير؟
أما أحمد آدم، فقد كتب معلقا على ذلك "نجد صعوبة في إيجاده، قد يكون قريبا منا أكثر مما نتصور، ولكن قد تكمن الصعوبة في عملية تنظيف ما يخلفه فينا من ألم ووجع وخاصة عندما لا نملك الدواء القادر على تخفيف ألم عملية التنظيف تلك لآثار وندوب العمر الذي مضى بمراحله المختلفة".
وهناك نوعان من الكتمان، كما توضح السعايدة، النوع الأول هو الذي يؤدي إلى حدوث التبعات النفسية، كما سبق ذكرها، بينما النوع الثاني هو المحايد والإيجابي، والذي يكون فيه الشخص متكيفا ومتعايشا مع حالته هذه، ولا يبوح بتلك الخبرات والتراكمات لأي شخص آخر، ويعيش حياة طبيعية دون حدوث أي آثار نفسية كما سبق القول.
وفي هذه الحالة تعتقد السعايدة أننا يجب ألا نجبر الشخص على الحديث والبوح بما لديه من مشاعر، كونه متأقلما ومتعايشا، إذ إن الكتمان لا يعني دائما أنه أمر خطير وغير صحي، بل إن البوح أحياناً له تأثيرات سلبية أكبر من الكتمان، وهنا يجب أن يحدد الشخص كيف ومتى يتعامل مع خبراته النفسية في طفولته وشبابه ومراحل حياته المختلفة.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق