في عالم تتشابك فيه خيوط الاقتصاد العالمي، لم تعد خريطة الإصلاح مرسومة بأيدي الشعوب، بل تُخط من قبل مؤسسات مالية كبرى تفرض شروطها باسم «التحديث» و»الاستقرار». غير أن الحقيقة الماثلة أمامنا تكشف وجهاً مغايراً: هذه البرامج، التي كثيراً ما تُسوّق كوسيلة للنهضة، ما هي إلا أدوات أعادت رسم اقتصادات الدول، وعمقت التفاوتات، وهشمت الأعمدة التي كان يرتكز عليها التماسك الاجتماعي.مثال: في إحدى الدول، فُرضت سلسلة من برامج التكيف الاقتصادي بإملاءات خارجية، حملت معها وعوداً براقة بالنمو والانفتاح. لكنها سرعان ما أفرزت واقعاً أكثر هشاشة: اختلال في بنية السوق، وتراجع لدور الدولة، وتنامي اعتماد الاقتصاد على رؤوس الأموال الأجنبية والاستثمارات قصيرة الأجل، مع تراجع متسارع في القطاعات الإنتاجية.تمثلت «وصفات العلاج» المفروضة في خفض الإنفاق العام، ورفع الدعم، وتحرير الأسواق، وخصخصة كل ما يمكن خصخصته. إلا أن فاتورة هذه الوصفات جاءت باهظة: تكاليف معيشية مرتفعة بشكل متواصل، تقلص في الدعم الاجتماعي، وعسر في الإنفاق الأسري يخنق مواطنيها. الطبقة الوسطى، التي طالما شكلت العمود الفقري للاستقرار الوطني، بدأت تتآكل وتنحسر قوتها الشرائية. أما القطاعات الحيوية، فباتت أكثر خضوعاً لقوى السوق الأجنبية.كل هذا يطرح أسئلة ملحة: لماذا يترافق «الإصلاح الاقتصادي» دائماً مع تراجع الأمان الاجتماعي؟ من المستفيد الحقيقي من نقل الأصول الوطنية إلى أيدٍ أجنبية؟ وإلى متى يمكن لأي اقتصاد وطني أن يصمد في ظل تراجع الإنتاج لصالح الاستهلاك، وهيمنة منطق السوق على حساب حقوق العمال وكرامة المواطن؟إن برامج التكيف لا تمنح تمكيناً اقتصادياً، بل تخلق تبعية متفاقمة لمراكز القرار المالي العالمي، دون ضمانات حقيقية تحمي المصالح الوطنية.الحل: لا يكمن في إجراء تعديلات تجميلية، بل في إعادة هندسة شاملة لأولويات التنمية الوطنية. لابد من تشريعات ذكية تحمي القطاعات الاستراتيجية، وتمنح الأفضلية للمستثمر المحلي، وتعيد إحياء الصناعات الوطنية التي توفر فرص عمل مستدامة وتحمي الإنتاج من التآكل.المطلوب اليوم هو إعادة بناء شبكات الأمان الاجتماعي، لا تفكيكها. فالمجتمع المستقر لا يُبنى على هياكل السوق فقط، بل على منظومات حماية تعيد للناس الثقة في دولتهم.أما إدارة الدّيْن، فيجب ألا تُدار وفق مؤشرات مالية مفرغة من مضمونها، بل وفق نهج يحفظ حقوق الأجيال القادمة، ويضع المواطن في قلب معادلة القرار الاقتصادي.التحديث الحقيقي لا يتحقق بالانفتاح العشوائي ولا بالاستسلام لإملاءات الخارج، بل بتحرير الإرادة الوطنية، وبناء اقتصاد عادل، متوازن.حجر الزاويةالنهضة لا تُستورد. والمستقبل لا يُصاغ بشروط الدائنين. الركيزة الحقيقية لأي مشروع وطني ناجح يبدأ من الداخل: من إرادة واعية، واقتصاد منتج، وسياسات تضع الإنسان قبل المؤشر المالي.إن حجر الزاوية في هذه المعركة ليس اقتصادياً فحسب، بل هو أخلاقي، سيادي، وإنساني.
تكاليف الصمت

تكاليف الصمت
0 تعليق