سلطنة عُمان تتجه إلى وضع تشريعات قانونية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في القضاء

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

اختتمت اليوم أعمال الندوة الدولية بعنوان "استشراف الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي" في سلطنة عُمان، بإصدار مجموعة من التوصيات الهادفة إلى تنظيم الاستخدام الأخلاقي والفعال لتقنيات الذكاء الاصطناعي في المنظومة القضائية. وشملت التوصيات جوانب تشريعية وأخلاقية وتقنية، تهدف إلى ضمان التكامل بين التكنولوجيا الحديثة وضمانات العدالة.

وأوصت الندوة بضرورة سنّ تشريعات تُحدد بوضوح نطاق وضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي، بما يشمل الحالات التي يمكن اللجوء فيها إلى هذه التقنية، والأدوات المسموح استخدامها. كما دعت إلى إصدار قانون يضمن رقابة بشرية فاعلة على جميع القرارات التي تُنتج تلقائياً عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي خلال مراحل العملية القضائية كافة.

وطالبت الندوة بإطار قانوني يحمي البيانات ويكفل أمنها، ويمنع إساءة استخدامها، مع ضرورة وضع تشريع واضح يحدد المسؤولية القانونية والمساءلة عن الأخطاء أو الأضرار الناتجة عن استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي.

وأكدت التوصيات أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يُنظر إليه كأداة مساعدة للقضاة وليس بديلًا عنهم، مع ضرورة الحفاظ على سلطة القاضي في اتخاذ القرار النهائي، كما شجعت على إصدار تشريع قانوني شامل يجيز استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في أروقة القضاء ضمن ضوابط واضحة.

وفي الجانب الأخلاقي، شددت الندوة على ضرورة التزام المؤسسات المطورة للأنظمة الذكية بتوفير معلومات شفافة وواضحة حول البيانات والخوارزميات المستخدمة، لتكون متاحة للجمهور والمستخدمين بسهولة، كما دعت إلى إنشاء "لجنة للشفافية الخوارزمية" تتولى الرقابة الدورية على الخوارزميات المعتمدة في العمل القضائي.

وأكدت التوصيات على أهمية احتفاظ القضاة بسلطتهم التقديرية، وعدم اختزال دورهم في تنفيذ ما تصدره الأنظمة الذكية من توصيات، وطالبت بتوجيه مطوري الخوارزميات إلى مراعاة العوامل الإنسانية والشخصية عند تصميم النماذج، والعمل على وضع آليات مشتركة تضمن تحقيق العدالة وعدم التمييز.

على الصعيد التقني، أوصت الندوة بتأسيس بنية أساسية متقدمة تدعم استخدام الذكاء الاصطناعي في المؤسسات القضائية، وتعزيز الكفاءة التقنية للعاملين في القطاع عبر برامج تدريبية متخصصة، كما شددت على ضرورة تحديث مستمر لنماذج الذكاء الاصطناعي وروبوتات الدردشة القانونية، وتطوير شراكات استراتيجية بين القضاء والقطاع التقني للاستفادة من الخبرات المتاحة.

ولم تغفل التوصيات أهمية الأمن السيبراني، مؤكدةً أن حماية البنية الرقمية تُعد عنصرًا محوريًا لضمان فاعلية وسلامة استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في ميدان العدالة.

وأكد سعادة عيسى بن حمد العزري الأمين العام للمجلس الأعلى للقضاء، خلال كلمته في الندوة أن الذكاء الاصطناعي بات من الركائز الأساسية التي تعتمد عليها المجتمعات الحديثة لتعزيز الكفاءة والفعالية في مختلف القطاعات، بما في ذلك قطاع العدالة. وقال سعادته: إنّ أدوات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تُحدث نقلة نوعية في العمل القضائي من خلال تسريع الفصل في النزاعات، وتحسين دقة الإجراءات، وتسهيل الوصول إلى العدالة.

وأوضح أن هذا التقدم التقني لا يخلو من تحديات، خاصة فيما يتعلق بضرورة صون القيم والمبادئ التي يقوم عليها القضاء، مؤكدًا أن الندوة مثلت فرصة ثمينة لتبادل الأفكار حول سبل توظيف هذه التقنيات ضمن إطار يحافظ على نزاهة واستقلالية السلطة القضائية، وأضاف أن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على تحسين العمليات الداخلية للمحاكم، بل تشمل أيضًا تعزيز القدرة على مواجهة التحديات القانونية المستجدة والمعقدة.

وأشار سعادته إلى مجموعة من التطبيقات العملية التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم بها القضاء، مثل تحليل البيانات القضائية واستخلاص السوابق والأحكام المماثلة، التنبؤ بالفترات الزمنية اللازمة للفصل في القضايا، التصنيف الذكي للدعاوى بحسب نوعها وأولويتها، والمساعدة في إعداد مسودات الأحكام عبر نماذج تحليلية للنصوص القانونية ذات الصلة.

وأكد دعم المجلس الأعلى للقضاء لكل ما من شأنه أن يُسهم في تطوير المنظومة القضائية وتحقيق عدالة مستدامة، مشددًا على أن التوازن بين التقدم التكنولوجي والقيم القانونية يمثل مسؤولية جماعية مشتركة.

نحو عدالة رقمية متكاملة

من جانبه، أوضح فضيلة الدكتور عامر بن محمد الحجري، قاضي استئناف بالدائرة الإدارية الاستئنافية، أن الندوة جاءت ضمن جهود المجلس الأعلى للقضاء لتنفيذ استراتيجيته المتماشية مع أهداف "رؤية عمان 2040" والتي تسعى إلى تطوير منظومة عدلية متقدمة تُرسخ سيادة القانون وتضمن عدالة ناجزة.

وأشار فضيلته إلى أن التحول الرقمي السريع أفرز تحديات قانونية جديدة، ورافقه تطور سريع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي شملت مجالات عدة، منها العمل القضائي، واعتبر فضيلته أن هذه الندوة تُعد خطوة مهمة نحو بناء نظام قضائي أكثر تطورًا، يواكب المتغيرات التكنولوجية المتسارعة.

التحديات القانونية والأخلاقية

وحول أبرز التحديات التي تواجه إدماج الذكاء الاصطناعي في القضاء، أكد الدكتور الحجري أنها تتنوع بين القانونية والأخلاقية، موضحًا أن من أبرزها "التحيز الخوارزمي" الناتج عن الاعتماد على بيانات تاريخية قد تتضمن تحيزات عنصرية أو اجتماعية، مما يؤدي إلى إعادة إنتاج نماذج تمييزية في الأحكام، بالإضافة إلى المبالغة في تقدير احتمالية تكرار الجرائم استنادًا إلى بيانات سابقة.

وأشار أيضًا إلى وجود فجوات تشريعية في تنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء، سواء من حيث تحديد المسؤوليات القانونية أو تعريف حقوق الملكية الفكرية للأنظمة الذكية، أما التحديات الأخلاقية، فتتمثل في إيجاد توازن دقيق بين الكفاءة والعدالة، حيث إن الأتمتة قد تُهمل أحياناً الحاجة إلى تقييم إنساني نوعي.

حلول وتوصيات

واقترح فضيلته جملة من الحلول لتجاوز هذه التحديات، في مقدمتها وضع أطر تشريعية وتنظيمية واضحة تُحدد المسؤوليات الأخلاقية والقانونية لجميع الأطراف، وتعزيز التعاون الدولي لتبادل الخبرات وتطوير معايير موحدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المنظومات القضائية، إلى جانب دعم الأمن السيبراني، وحماية خصوصية البيانات القضائية.

وأشاد الدكتور الحجري بالدور الريادي الذي تقوم به سلطنة عُمان في هذا المجال، موضحاً أن الدولة تتبنى محاور استراتيجية عدة، تشمل تبادل الخبرات وأفضل الممارسات العالمية، وبناء القدرات الوطنية من خلال برامج تدريبية متقدمة، وتنظيم ورش عمل للقضاة والعاملين في القطاع، فضلاً عن تعزيز الابتكار وتبني حلول ذكية في تحليل الأدلة الرقمية، وأتمتة الإجراءات القضائية، ومراقبة الأنشطة غير القانونية.

ناقشت الندوة، ثلاثة محاور رئيسية تمحورت حول التحديات القانونية والأخلاقية والأمنية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي، والتطورات المستقبلية والتعاون الدولي في هذا المجال.

وقد شهدت الندوة عرض إحدى عشرة ورقة علمية تناولت مختلف الجوانب المرتبطة بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته القضائية.

الجلسات الحوارية

تناولت الجلسة الأولى دور الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي، بينما خصصت الجلسة الثانية لمناقشة التحديات القانونية والأخلاقية والأمنية، حيث استعرض الدكتور محمد الجهوري، كبير الباحثين القانونيين بالمجلس الأعلى للقضاء، قضايا الشفافية والمساءلة الأخلاقية المرتبطة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

وقدم الأستاذ الدكتور حسين بن سعيد الغافري، مساعد رئيس الجامعة العربية المفتوحة في سلطنة عُمان للبحث العلمي والابتكار، ورقة علمية تناولت حماية البيانات الشخصية في ظل استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء، مشيرًا إلى أهمية وضع أطر تشريعية واضحة لضمان أمن المعلومات.

كما ناقش الدكتور خليل بن حمد البوسعيدي، أستاذ القانون العام المساعد بكلية الحقوق بجامعة الشرقية، بالاشتراك مع الباحث عمر بن راشد الشعيبي، المتخصص في الذكاء الاصطناعي، قضية التحيزات الخوارزمية، مسلطين الضوء على سبل معالجتها قانونياً وأخلاقياً ضمن النظام القضائي.

أما الدكتور قاسم كال، الأستاذ المساعد في المعهد الوطني للصحة والبحوث بفرنسا، فقد قدم ورقة بحثية متخصصة حول الأمن السيبراني في الأنظمة القضائية الذكية، مشددًا على أهمية التحصين الرقمي لمكونات النظام القضائي أمام التهديدات الإلكترونية المتزايدة.

أما الجلسة الثالثة، فقد ركزت على التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في القضاء، حيث نوقشت موضوعات مثل تحليل النصوص القانونية باستخدام الذكاء الاصطناعي: فوائده وتحدياته، وحجية المخرجات الخوارزمية أمام القضاء الجنائي،

التقنيات المبتكرة في التحقيقات القضائية، ودور الذكاء الاصطناعي في تدريب الموارد البشرية داخل المرفق القضائي.

وشكلت الجلسة الرابعة منصة لاستشراف المستقبل وبحث سبل التعاون الدولي، حيث استعرضت إحدى الأوراق أثر الذكاء الاصطناعي على دقة الجينيوم البشري ودوره المحتمل في تحليل الأدلة الجينية، بالإضافة إلى آليات تعزيز الحجية القانونية للجينيوم أمام القاضي.

وفي هذا السياق، قدمت القاضية إكرام أحمد شاعر، رئيسة محكمة جزاء بيروت، ورقة تحليلية تناولت أهمية التعاون الدولي في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي القضائي، واستعرضت سيناريوهات استخدام الذكاء الاصطناعي في القضاء بناءً على تجارب عالمية، مع التركيز على الاستراتيجيات اللازمة لمواكبة التطور التكنولوجي وتحقيق العدالة.

وأكد عدد من المشاركين في الندوة أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير المنظومة القضائية، شريطة أن يتم ذلك في إطار من الأخلاقيات والخصوصية الوطنية، مشددين على ضرورة تعزيز الشراكة بين مختلف القطاعات لدعم مسيرة التحول الرقمي في سلطنة عُمان.

وقال الدكتور قيس بن محمد الهمامي مدير مركز الاستشراف والذكاء الاصطناعي في منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو): إنّ الاستشراف الاستراتيجي بات يشكل أولوية في الأداء التكنولوجي وصنع القرار، مشيرًا إلى أن تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي يتيح بناء سيناريوهات مستقبلية قريبة من الواقع وأكثر دقة.

وأوضح أن دور الذكاء الاصطناعي في العمل القضائي يحمل جوانب إيجابية وأخرى تتطلب الحذر، إذ يجب النظر إليه كـ"أداة داعمة" للقاضي وليس بديلاً عنه، موضحاً أن أدوات الاستشراف يمكن أن تفتح أمام القضاء إمكانيات جديدة لاتخاذ قرارات أكثر دقة وموضوعية.

وأشار إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه هذه المرحلة تكمن في الخوارزميات والتحليل المعلوماتي، متسائلاً عن الدور المستقبلي للقاضي في ظل التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، مما يستدعي اعتماد هذه الأدوات بمراعاة الخصوصيات الوطنية والأخلاقيات القضائية في سلطنة عُمان.

شراكة مصرفية

من جانبه، أوضح سيف بن عبدالله اليحيائي رئيس الخدمات المصرفية في بنك العز الإسلامي، أن مشاركة البنك في هذه الندوة تأتي ضمن إطار التزامه بدعم جهود التحول الرقمي وتعزيز الابتكار في سلطنة عُمان، مشيرًا إلى أن التعاون مع المجلس الأعلى للقضاء يُعد نموذجًا للتكامل بين القطاعين المصرفي والقضائي.

وأكد اليحيائي أن الندوة شكلت منصة مهمة لمناقشة أحدث التقنيات والممارسات العالمية في استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز كفاءة العمل القضائي، منوهًا بأن هذا النوع من الشراكات يعكس التوجه الوطني للاستفادة من التقنيات الحديثة في مختلف القطاعات.

وأضاف أن بنك العز الإسلامي يحرص على دعم المبادرات الوطنية التي تسعى إلى تعزيز البنية الرقمية للمؤسسات، بما يسهم في رفع مستوى الأداء المؤسسي وتحقيق العدالة بكفاءة أعلى، مشددًا على أهمية استمرار التعاون بين القطاعات لتسريع وتيرة التحول الرقمي وتحقيق الأهداف المنشودة ضمن "رؤية عُمان 2040".

أقيمت الندوة في فندق سانت ريجيس بمسقط، بحضور الشيخ غصن بن هلال العلوي، رئيس جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، وعدد من أصحاب المعالي الوزراء وأصحاب السعادة، وممثلي الجهات التشريعية والقضائية، إلى جانب نخبة من الأكاديميين والباحثين والمتخصصين في القانون والذكاء الاصطناعي من داخل سلطنة عُمان وخارجها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق