إذا كان الموسيقيُّ الذي يعزف على آلة وتريّة لا يستغني عن الريشة التي حين يمرّرها على أوتار آلته الموسيقيّة تنتج صوتا عذبا، فإن الرسام لا يستغني عن الفرشاة التي يغمسها فـي ألوانه ليرسم لوحات جميلة، ولو وضعنا الريشة، والفرشاة فـي يد واحدة، فكيف سيكون جمال تلك القطعة الموسيقية، وشكل تلك اللوحة؟
دار فـي رأسي هذا السؤال وأنا أتصفّح كتاب الموسيقار نصير شمّة (رؤية وحياة.. أربعون عاما من الألوان) الصادر عن جاليري الاتحاد للفن الحديث فـي أبوظبي ٢٠٢٥، الذي ضمّ حوالي (150) لوحة تشكيليّة للفنّان نصير شمّة، تنوّعت فـي حجومها، وموضوعاتها، واشتركتْ فـي أسلوبيتها، وهو الأسلوب الذي لفت أنظار مصمّمة أزياء عراقيّة، هي الفنّانة (نهاد السامرّائي)، فقامت بوضع تصاميم لأزياء مستوحاة من تلك الأعمال الفنية، ستقدّمها فـي حفل يقام فـي دبي الشهر المقبل.
يقول شمّة الذي يُعدّ اليوم من أبرز عازفـي العود فـي الوطن العربي والعالم
وجرى تنصيبه، منذ سنوات، سفـيرا للنوايا الحسنة للاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر: «منذ بدأت الرسم قبل ما يقارب الأربعين عاما، صنعت لريشتي كيانا موسيقيا، وكنت فـي كل مرة أنجز فـيها لوحة أسمع موسيقاها، بل ألامسها، وأعيد تكوين نفسي داخلها، كنت ألامس اللون بين أصابعي، بالطريقة نفسها التي أفرك بها أصابعي وأنا أستعدُّ للموسيقى.. للمس ذاكرة، تماما كما للأذن ذاكرة»، ومن هذه الذاكرة يغترف، كلّ ما يجعله يثري مخيّلته، ويحوّله إلى موسيقى وألحان ونغمات، لكنه لم يكتف بذلك، بل حوّلها إلى ألوان، فالإبداع الفني طاقة خلّاقة، ويقال إن هناك روابط خفـية بين الموسيقى والفنون التشكيلية بدليل أن العديد من الموسيقيين كانوا يرسمون ومن بينهم: بوب ديلان، والسير بول مكارتني، وستيفـي نيكس، ومارلين مانسون وديفـيد بوي، وحول الدافع الذي جعل الموسيقار نصير شمّة يمسك ريشة العزف بيد ويضع بيده الأخرى ريشة الرسام، يصرّح أن تلك الومضة الغامضة انبثقت فـي رأسه بينما كان يقرأ كتابا للشاعرة البولونية شيمبورسكا، فلفتت أنظاره قصيدة تقول فـيها: «حتى يرى الموسيقى، صنع لنفسه كمانا من زجاج»، فقرّر أن يرى الموسيقى، مثلما يرى قوس قزح، وحين رآها، قرّر أن ينقل أحاسيسه، وهو يرى الموسيقى، إلى الجمهور الذي عرفه موسيقيّا بارعا، فخاض مغامرة جديدة، وقبل ذلك بالتأكيد درس أبعاد تلك المغامرة، فـي مقدمة الكتاب يقول الدكتور حسن ناظم: «مثلما كان الشعر رسما ناطقا والرسم شعرا صامتا، صارت الموسيقى لدى نصير شمّة رسما منغّما والرسم موسيقى صامتة، ويعي الفنّان نصير شمّة أبعاد هذه المغامرة فـي كيفـية تأسيس العلاقة بين الموسيقى والرسم»، فقام بجمع أعماله الفنية وأقام معرضا تشكيليا احتضنه جاليري الاتحاد للفن الحديث بأبوظبي فـي فبراير 2024م ضم (70) عملا تشكيليا، فنجح فـي ذلك وكرر التجربة فـي مطلع العام الحالي فـي القاهرة وأقام معرضا تشكيليا ثانيا بجاليري الباب بدار الأوبرا المصرية، حمل عنوان (ربع تون) قبل ذلك شاركت أعماله فـي معارض جماعية من بينها معرض (أبوظبي آريت)، وقد ساهمت ردود الأفعال التي تلقّاها فـي الاستمرار بمشروعه التشكيلي الذي يعمل إلى جانب مشروعه الموسيقي، فوضع «سيمفونيات ملونة من خلال لوحاته التي تحمل روحانية كبيرة وانغماسا فـي معالجات السطوح بطريقة تحمل الكثير من الحساسية والجمال»، كما يقول الفنان ستار كاووش الذي رأى فـي لوحات شمّة أن الرسم تخلص من أثقاله وقال الكثير من خلال إيقاعات الألوان.
فللألوان إيقاعات، مثلما للموسيقى أشكال وألوان، والموسيقيّ الرسام هو الذي يسعى إلى إيجاد حالة من التكامل بين الرسم والموسيقى، فـيحافظ على الإيقاع فـي الرسم، وعلى الألوان فـي الموسيقى، وبذلك يمكننا أن نرى الموسيقى على جدران المعارض، والمكاتب، والبيوت، وحتى فـي الملابس التي نرتديها، وهذا ما سعى إليه الموسيقار نصير شمّة، ونجح إلى حدّ بعيد فـي تحقيقه، فخرج علينا بسيمفونيّاته الملوّنة.
0 تعليق