"نحن لا نطلب حلولا".. هل جيل اليوم يتوق لمن ينصت لا لمن يوجه؟

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

عمان - في لحظات التعب أو الحيرة، وأحيانا حتى في الفرح، لا نلجأ لمن نحبهم بحثا عن أجوبة، بل عن أذن تصغي بصدق. نبوح بما في داخلنا لا لنصلح، بل لنفهم. لكن، في زمن تتسارع فيه النصائح وتتسابق الأحكام، هل ما يزال هناك من يجيد الاستماع؟اضافة اعلان
"أنا مش بحاجة للنصيحة.. بس اسمعني" جملة يرددها أبناء جيل اليوم، الذين باتوا يدركون أن الحل لا يكون دائما في الرأي، بل أحيانا في مجرد الإصغاء. في زمن أصبحت فيه النصائح الفورية تشعر المتلقي بالحكم عليه أكثر من دعمه، أصبحت الحاجة للإنصات العميق والهادئ ضرورة نفسية، لا رفاهية.
تبرز أهمية "الإصغاء الصامت"، بحسب الاستشارية النفسية د. فيروز، باعتباره الفارق الجوهري بين جلسات الكوتشينغ والعلاج النفسي التقليدي. وأوضحت: أن تصغي لشخص ما بإيماءات محايدة، دون إصدار أحكام أو محاولة التصحيح، هو ما يمنح الآخر شعورا عميقا بأنه مرئي وله قيمة. تلك المساحة الآمنة تشعره بالقبول، بدلا من إعادة قولبته كما يفعل الكثيرون.
في مشهد يتكرر، يروي شاب لصديقه ما يؤرقه، فلا يكاد يكمل جملته حتى تنهال عليه النصائح، وربما المحاضرات، من دون أن يمنح فرصة لتفريغ ما بداخله. كم مرة حصل هذا؟ وكم مرة أغلق الإنسان فمه بعد ذلك، ليحتفظ بكل ما يشعر به لنفسه؟
نحتاج الإنصات أكثر من النصيحة
الإنصات فن بدأ يتكلل في زمن امتلأ بالضجيج: ضجيج السرعة، ضجيج التوتر وضجيج الرغبة في التصحيح. كأن العالم لم يعد يحتمل ضعف أحد، أو حيرته. فـ"الكلام الجاهز" أسهل من الحضور الصامت.
وتؤكد د. فيروز أن هذا النقص في الإنصات تعود جذوره للطفولة: "هل كانت الأم تسمع طفلها وتحاوره، أو تعتبره مجرد صغير وتهمش رأيه؟".
تضيف أن التربية، التعليم، بيئة العمل، جميعها عززت ثقافة الأداء بدلا من الفهم والإصغاء.
وتشير إلى أن قدرة الإنصات لم تورث بشكل كاف من الأجيال السابقة، ربما لأنهم لم يتربوا عليها أصلا. فالأهل غالبا ما يفتقرون لمهارة الإصغاء، إذ اعتادوا على أن يكونوا في موقع المعلم أو القاضي.
أما جيل اليوم، فرغم تمتعه بوعي عاطفي أعلى، إلا أنه ما يزال يتردد حين يتعلق الأمر بالاستماع الحقيقي. فالثقافة السائدة علمت الناس أن يردوا بدلا من أن يحتوي أحدهم الآخر. وأصبح الحب يربط بالنصيحة، والصداقة بمحاولات التصحيح، والاهتمام بكثرة الكلام، في حين أن أعمق أشكال الدعم لا تقال، بل تمنح بصمت.
وتضيف الدكتورة فيروز، أن الإصغاء مهارة علاجية تخرج الشخص من حالة الاعتمادية وتمكنه من الوصول إلى صوته الداخلي، حتى لو لم يكن الحل المثالي علميا.
جيل يحاول أن يفهم نفسه 
في دراسة حديثة حول أنماط التواصل بين الشباب، ظهر أن نسبة كبيرة منهم يشعرون بعدم الارتياح عند مشاركة مشاعرهم مع الأصدقاء أو العائلة، خوفا من "رد الفعل"، سواء أكان تقليلا من معاناتهم أو إصدار الأحكام على اختياراتهم.
رانيا (27 عاما)، تقول: "في كل مرة كنت أحكي لأهلي عن مشاكلي، كانوا يقاطعونني بنصائح أو مقارنات، ما كنت ألاقي حدا يسمعني. صرت أفضل أكتب بمذكرتي أو أفضفض لتطبيق AI، لأنه على الأقل ما بيفرض علي شي".
هنا يبرز تحول سلوكي ملحوظ بين الجيل الجديد، إذ باتوا يلجؤون لتطبيقات الذكاء الاصطناعي كمساحة آمنة للفضفضة. ويؤكد خبير الذكاء الاصطناعي محمد خواجا، أن هذا التحول له جذور مفهومة، حيث يقول: "تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقدم مستوى عاليا من الذكاء، تجعلنا نشعر أنها أشبه بإنسان طبيعي من حيث التفاعل، لكنها – في الوقت ذاته – مستحيل أن تلعب دورا أبويا كالإنسان الحقيقي".
وتضيف الدكتورة فيروز: "الـAI لا يمكنه إعطاء نصيحة دقيقة، لكنه يتحدث بلغتك، وما بيحكم، وما بينقل كلامك. فيه فجوة لغوية وعاطفية بين الأجيال، والذكاء الاصطناعي أحيانا يسدها مؤقتا". لكنها تؤكد: "الآلة ما فيها إنسان، ما فيها عمق الشعور". 
من وجهة نظر خواجا، جيل ألفا يميل لاستخدام هذه التطبيقات لأنها تقدم تفاعلا يناسب أسلوبهم، فهذه التطبيقات تحاول التحدث معه بطريقة تتناسب مع طريقة تفكيره".
أما جيل زد، فيرى أنهم أصبحوا أكثر نضجا مع دخولهم سوق العمل، ويميلون أكثر إلى اللجوء لمعالجين نفسيين حقيقيين.
لكن، هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي الإصغاء العاطفي؟ يجيب خواجا: "ذلك ممكن، لكن فقط تحت إشراف اختصاصيين نفسيين. يمكن تدريب الذكاء الاصطناعي ليقدم دعما عاطفيا موجها لأشخاص عاديين، لا يعانون من مشاكل نفسية متقدمة، بل فقط بحاجة إلى من يسمعهم".
لكل فئة لغتها الخاصة
يشدد خواجا، على ضرورة أن تتكيف التكنولوجيا مع طبيعة الفئة التي تتعامل معها: "حتى تكون الاستشارة مناسبة، يجب أن تقدم بطريقة تناسب فئة المتلقي. مثلا، إذا كنا نتحدث عن طفل متمرد على النصيحة، يمكننا أن نوجهه بلغة تناسب عمره وطريقته في التفكير".
وفيما يخص الفرق بين قدرة الذكاء الاصطناعي على "الإجابة" و"الاحتواء"، يؤكد خواجا أن: "النماذج الموجودة حاليا ليست جاهزة بنسبة 100 % للاحتواء العاطفي، وهي بحاجة إلى تدريب مستمر من خبراء نفسيين".
لكنه يضيف: "هذه الوسائل لا تصلح أبدا للتعامل مع الحالات المتقدمة مثل شخص مقبل على الانتحار، لكنها تقدم دعما مبدئيا لمن يمرون بضيق أو عزلة بسيطة".
الفضفضة ليست ضعفا 
في مجتمع يرى البوح عيبا، والدمعة ضعفا، والمشاعر فوضى يجب ضبطها، تصبح الفضفضة شكلا من أشكال المقاومة. حين تبحث عمن يسمعك، فأنت لا تطلب حلا، بل تطلب قلبا يصغي إليك كما أنت، من دون محاولة تعديلك.
الحل، كما تراه د. فيروز، يبدأ من التربية العاطفية، وتعليم الأهل والمربين والمهنيين مهارة الإنصات قبل الحوار، وتقدير الألم قبل تقديم النصائح.
"مش كل حدا بيحكي معنا لازم نعطيه جواب. أحيانا، هو فقط محتاج نحكي معه ونتشارك معه. لازم نعيد برمجة ثقافتنا، ونتعلم الإصغاء كتطبيق مش بس نظرية".
لنصغ من دون أن نصلح
ربما نحتاج إلى أن نتوقف عن تصديق أن كل ألم بحاجة لحل، وأن كل شكوى بحاجة لتصحيح. أحيانا، يكفي أن نقول: "أنا فاهم شعورك". تلك الجملة، وحدها، قد تمنح قلبا ما يكفي من القوة ليكمل يومه.
ليس المطلوب أن يكون المرء معالجا نفسيا، ولا خبيرا. يكفي أن يكون حاضرا بصدق. أن يدرك أن الإصغاء ليس ضعفا، وأن الصمت في حضرة البوح احترام، لا عجز.
كل ما نحتاجه هو من يصغي، لا من يفرض حلا. فالبحث ليس عن منقذ، بل عن مستمع لا يصدر أحكاما.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق