قليلة هي الأعمال السردية التي يؤجل قراءتها إلى الوقت المهيأ للمطالعة والتعمق فـي نصوصها، وهذا ما كان مع «النذر وقصص أخرى» الصادرة عام 2022، عن منشورات المتوسط، للكاتب والإعلامي التونسي حسن مرزوقي، الذي اشتهر بإنتاجه لبرنامج «المشّاء» أحد أهم البرامج الثقافـية فـي القنوات العربية، وبثته قناة الجزيرة التي انضم إليها حسن بعد مسيرة فـي حقل التعليم وتجارب حياتية غنية بالمعرفة والبحث.
فـي المجموعة المتضمنة لعشر قصص والموزعة على (126) صفحة، كتب حسن مرزوقي قصصه المنذورة لفئات اجتماعية وجدت ذاتها وعوالمها خارج دوائر الاهتمام الرسمي والاجتماعي، فأخرجها الكاتب من الهامش إلى مركز الاهتمام ووضعها أمام القارئ، لعله يواسيها فـي معاناتها الدائمة مع القدر والحظوظ التعيسة التي حالت دون تغيير حال المهمشين والمعوزين.
هكذا تسرد المجموعة حكايات أبطال يتلقون ضربات القهر والتأزم المهيمن، أناس مقهورين ومتأزمين لا يمكن أن تخطئهم عين القارئ، تتعرف على صراعهم الأزلي مع الحياة وانتزاع فرحة منبوذة من يومياتهم الطاحنة، فـي المقابل هناك أبطال انتهازيون يتخطون كل الخطوط ويتجاوزن كل المحاذير والقيم لأجل تحقيق منافعهم الشخصية بطرق ملتوية أو غير مقبولة فـي الظاهر.
كل نص فـي المجموعة يحمل فكرة مختلفة، ولكن الخيط الجامع بين القصص جميعها هو إدانة الظلم أيًا كان مصدره، وفضح النفاق والتزلف والخداع مثل شخصية الإعلامي فـي قصة ميكرو، أو المتاجرة بأوجاع وأحلام الآخرين مثل تصرف «الجوك» صاحب مركب تسفـير المهاجرين أو «الحرَّاقة» كما يطلق عليهم فـي بلاد المغرب العربي.
رأى عامر طباع البشر المخادعين واكتشف حقارتهم «رأى ما لا تستطيع العدسة أن تراه».
أفرد الكاتب لأبطال القصص مساحة كافـية للبوح عن ألم السلطة الاجتماعية المتحكمة فـي المشهد الاجتماعي، فتوزع التهم لمن تشاء وتنزع الرحمة عمن تشاء، مثلما حدث فـي قصة «البوخة» مع وفاة الطاهر الفوّال، الذي تضامن معه رواد الحانة بالرغم من أنه لا يشاركهم فـي الشراب «لم أسمع بكاء ولا عويلًا، بل أحاديث جانبية متفرقة وخافتة، ومن حين لآخر، تُسمع ضحكات مكتومة بين الجموع. كانت جنازة سعيدة لرجل تعيس».
تفتتح المجموعة بقصة «الكأس المقلوبة» التي يحاول بطلها الانتحار بشرب سم الفئران إلا أن السم بطل مفعوله «إن هذا الرجل الذي غشّ فـي السّم عظيم لأنه غش فـي الموت، فزاده منسوبا من الحياة، والموت هو حياة منطفئة، يمكن إضاءتها قبل الأوان وأحيانا مع الأوان أو بعده بقليل»، يقول الناجي من الانتحار: «إذا سألتني لماذا حاولتُ الانتحار أُجيبك بكل بساطة أنني قادرا على الحياة، ولكن هذا لا يعني أنني أحب الموت»، ثم يخاطب الطبيب قائلا «أنا مرهق، يا دكتور، أنا مرهق.. مرهق؛ لأنني لم أمت، ومرهق لأنه لا يوجد إلا خياران حياة أو موت».
فـي قصة «إيقاع الحجر» يأتي عمال البناء الذين تطحنهم مصائرهم وتجبرهم على البحث عن اللذة فـي أشباههم ممن تنكر الفرح لهم، فلا يجدون متعتهم إلا مع شهدة.
حملت قصة النذر، عنوان المجموعة مسافر يترك وطنًا وذكرى حبيبة وذكريات من آلام السجن والقسوة، مسافر يحمل نذره داخله ولا يعرف القارئ أي نذر هو إلا بعد أن خروج المسافر من حمام الطائرة، وسأل المضيفة: «هل أستطيع أن أعرف فوق أي أرض نحن الآن. التفتت إلى شاشة فـيها خريطة ساذجة.. لقد تجاوزنا الحدود الإقليمية للوطن منذ ربع ساعة فقط.. نحن الآن خارج الحدود».
كان نذر المسافر هو التبول على مكان إقامته حين يغادره إلى وجهة غير معلومة فـي النص.
تحمل معظم القصص فـي المجموعة نفسًا طويلًا يصلح لأن تكون أعمالًا روائية قصيرة، سواء فـي حبكتها أو أبطالها، نظرًا لامتلاك الكاتب قدرة تخيلية على استنطاق الأبطال لسرد مشاعرهم والتعبير عنها بكل تفاصيلها.
0 تعليق