زورق من ورق

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
ثمة زورق صغير، يبدو فذا في مظهره، متماسكا في رونقه، صلبا كما يخيّل إليه، لامعا تحت أشعة الشمس، تخرّج من المرفأ حديثا، حمل مرساة وانطلق طافحا، وغمر نفسه في عباب البحر مزهوّا، معتقدا أنه طائر زنبقي يطوي البحار ويطوف الشواطئ، لتعلن أطيار البحر عن موعد رحلته، وكأنها باتت ستخلد في كتب المغامرين. أخذ الزورق ينساب بثقة مفرطة يصارع أمواج البحار، رافعا شعار: أن في العزلة ميزة، وفي الفردية بطولة.

ورويدا رويدا تسلل الليل يربد عن جانبيه، وهبّت الريح، وتلاطمت الأمواج، وإذ بقطرات الماء تتسلل إليه، وفاض البحر يغمره، حتى بدأ يهترئ ويتمزق، ويخاطب نفسه بهلع يا إلهي سوف أغرق، وأكسر وحيدا مقهورا. أدرك الزورق أنه لا يملك ما يكفي من القوة ليصمد أمام هيجان البحر. صار يصارع للبقاء، وفي الأفق، لمَح أسطولا من الزوارق الصغيرة، متشابكة الحبال، متراصة الصفوف، يتحرك أفرادها بتناغم عجيب. ولا أحد منهم يقاوم وحده، أو يبحر في اتجاه مخالف. كانت الأمواج تتعالى، لكنهم يشدّ بعضهم بعضا، فتتماسك صفوفهم، ويتجاوزون العاصفة بانسجام تام، انتهى.

في خضم عالم يموج بالمتغيرات والتحديات، تبرز قصة "زورق من ورق" لحال كثير من العاملين في بيئات العمل المعاصرة. هنا تتجلى العبرة (السلبية) في بيئة العمل الحديثة: النجاح لم يعد قوامه الجهد الفردي فحسب مهما بلغت مهارات الفرد وحصافته. فالتحديات الراهنة في مختلف منظومات العمل تتطلب من جملة ما تتطلب تعاونا صادقا، وتناغما بين أعضاء الفريق، بحيث يكمل كلٌ منهم الآخر، كما يشد البنيان بعضه بعضا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا." (متفق عليه).

في المؤسسات الناجحة لا ينظر إلى الفرد كجزيرة معزولة، بل كجزء من منظومة تؤمن يقينا بأن القوة في الوحدة، وأن الإنجاز الحقيقي يؤسس بالعمل الجماعي، الذي يحترم التخصصات، ويقدّر الأدوار، ويحتفي بروح الفريق. لم تعد البطولة أن تبحر وحدك، بل أن تبحر مع من يشد أزرك، ويدفعك للأمام، ويقف معك في وجه العاصفة. فالفرد المبدع قد يبدأ الرحلة لكن ربما يخذل مع أول موجة عاتية لكن الفريق المتكامل هو من يقود الزورق إلى حيث شاطئ الأمان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق