الوزير وإياد.. اختصار فلسفة التعليم

الوطن البحرينية 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لأول مرة اندمج في كلمة حفل تخرج لا تربطني به صلة، حدث ذلك وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، عندما قرر سعادة وزير التربية والتعليم الدكتور محمد بن مبارك جمعة في حفل تخريج الجامعة العربية المفتوحة، أن يبتعد عن الكلمة البروتوكولية والطابع الرسمي للخطابات، ليسرد مشهداً مؤثراً يكاد يلخّص فلسفة التعليم برمّتها، يروي الوزير مشهد طفل صغير يطرق نافذة سيارته، ليس طمعاً في صدقة، ولا بائعاً جوالاً، إنما كان طرق فيه نداء مستتراً خلف الزجاج، نداء يكشف هشاشة واقع اجتماعي في بعض زواياه، ويستصرخ المدرسة والدولة والمجتمع أن ينتبهوا لمن حولهم ويتقصّوا أمورهم.

الوزير بروح الأب لا المسؤول، روى القصة للحضور وسط أبصار شاخصة نحوه، ووقف عند تفاصيلها كمن يعالج جرحاً دقيقاً، فتحولت الإشارة إلى خضراء، وسأله ما اسمك، فصاح باسمه بصراخ عالٍ تجاوز سمع الوزير الذي لم يكتفِ بالسرد وجعلها قصة في أحد خطاباته، بل تابع الحالة، حتى تأكد من استقرار الحالة لينقلها لنا بعد مضي شهرين في مناسبة أجاد اختيار الخطاب لها.

لكن القصة لم تتوقف عند الوزير، فهناك بطل آخر في الخلفية: طفل آخر اسمه «إياد»، هو من لفت انتباه زميله إلى أن الوزير أمامه وهو يشكي له الحال، قال له ببساطة: «هذا وزير التعليم.. روح وكلمه».

وهنا جوهر القضية: أن الطفل الذي أعاد زميله إلى مقاعد الدراسة لم يكن موظفاً في الوزارة، ولا مشرفاً اجتماعياً، ولا فرداً من عائلته أو جيرانه، أو شخصاً يملك صلاحية ولا منصباً، لكنه امتلك ما يكفي من وعي ليشير ويوجّه، ويُحدث فرقاً، إياد لم يقم بإنقاذ زميله فقط، بل ذكّرنا جميعاً أن التغيير لا يحتاج أكثر من عين مبصرة وقلب يقظ.

التفكك الأسري وما يخلّفه من انقطاع تعليمي، وتشتت نفسي، وانكسارات غير مرئية في بنية المجتمع كان في خلفية القصة كلها، غياب الأب، انتقال الطفل للعيش مع قريبة في الخارج، سنوات ضائعة من التعليم، ثم عودة دون متابعة، هذه القصص ليست نادرة، لكنها غالباً تمرّ بهدوء، دون أن تثير انتباه أحد، فبعضها يحدث في الزاوية المقابلة من الحي، أو مع أحد أفراد العائلة، لكننا لا نلتفت، فكل منّا قد يكون شاهداً عليها، أو حتى طرفاً قادراً على التدخل، لو وسّع نظره قليلاً، وأخذ على عاتقه تحمّل مسؤوليته المجتمعية.

وسط هذه القصة، يبرز اسم «إياد حسين»، الطالب الذي يستحق أن يُذكر كثيراً، فإياد الذي لم يتجاهل حزن زميله المتغيّب، بل أشار له إلى سيارة الوزير، وبهذا الفعل البسيط كان له أثر عظيم، إذ أسهم في إعادة طالب إلى مقاعد الدراسة، وقد قام الوزير بنفسه بتكريم إياد، مؤكداً أن المجتمع كله، صغيراً كان أو كبيرًا، مسؤول عن حماية مستقبل هذا الجيل.

ولأن الوطن لا يُبنى بالأنظمة فقط، بل أيضاً بالرعاية، كان تدخّل المؤسسة الملكية للأعمال الإنسانية برئاسة سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، خطوة فارقة، فالمؤسسة تبنّت حالته كيتيم، وقدّمت له رعاية شاملة: تعليمية، ونفسية، واجتماعية، وسلوكية، وهذا إن دل فهو يدل على التكامل في الرؤية، وهو ما يجعلنا نثق بأن هناك من يعمل بصمت لإعادة التوازن حين يختلّ.

فما بين إياد الذي أشار، وطفلٍ كاد أن يضيع، ومسؤولٍ لم يتجاهل، تتكوّن الحكايات التي تُعيد للتعليم معناه، وللمجتمع دوره، فهي رسائل تحمل دروساً لا تُكتب في المقررات، ولا تُعلَّم في الدورات أو الورش، بل تُدرَّس بالمواقف وتُحفر في الذاكرة، رسائل نحتاج أن نُعيد قراءتها بعيون المستقبل، ففي زمن تتزاحم فيه الصور، وتعلو فيه الضوضاء، مازال هناك من يطرق النوافذ.. ومن يفتحها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق