في هزيمة المنتصر

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

هل النصر والهزيمة هما أقدار مكتوبة؟ المنتصر منتصر للأبد والمهزوم منهزم دوما؟ وهل المنتصر مهزوم والمهزوم منتصر في جوانب أخرى؟ هذا ما تشي لنا به السنن والأقدار. فليس كل شيء نهائيا وقدرا وخواتم.

لكن لماذا نحن مهزومون؟ نسأل من أي نافذة أو باب تدخل علينا هذه التيارات المتلاحقة من المآسي والكوارث؟ وتلاحقنا سياط الهزيمة؟ ما يكاد ينفرد عقد من الزمان إلا ونرى إمعانا بالقتل والدمار والإذلال، كوارث ومصائب، فوضى ماحقة تلقي بأثقالها وحمولتها وتغشينا بسوادها، كيف يحدث ذلك؟ ولكن إذا نحن مهزومون فإن ذلك ليس بنهاية؛ فهناك بذور للنصر تنمي وتزهر فينا، وهذا لا شك فيه. فإذا كان محمد عابد الجابري قد شخص علل العقل العربي فيما أسماه (العقل الأخلاقي العربي) وذكر بأن موروثات تحفر فيه قيم الطاعة والجبر والخضوع التي ورثها العقل العربي من موروثات يونانية وفارسية ودينية والموروث الصوفي. وهي المسؤولة عن سلوكنا وتصرفاتنا وهي بالتالي المسؤولة عن هزائمنا الداخلية أو ما أسماه الجابري بـ(أخلاق الهزيمة)، فإن تلك الوصفة قد لا تقتصر على العقل العربي وحده وإنما تتشارك فيه كل عقول العالم والبشرية.

وتبقى التحولات الكبرى والمفصلية التي تصيب البشرية بما فيها الكوارث والمآسي أو حتى السعادة رغم قلتها إن لم تكن منعدمة هي ما تظهر المكنونات والخبايا والرواسب المتراكمة في نفس البشرية على الصعيد الفردي أو المجتمعي أو حتى الحضارات والدول وتظهر للبشرية بشكل لا إرادي أو لا واع وهي حالة تتجسد فيها الحقيقة الساطعة التي تأتي دون رتوش متجردة كل التجرد مما يعيق ظهورها وبروزها.

الحدث الجلل الذي كان سببا في إظهار الحقائق هو بالتأكيد «طوفان الأقصى» الذي تحول إلى أحد المفاصل التاريخية التي أصابت البشرية، فترسخ في النفوس والأذهان حاله حال السرديات الكبرى التي أوجدت تحولات عميقة في الكون والبشرية. يرتقي طوفان الأقصى كحدث جلل في حرب الإبادة والوحشية التي تشنها الصهيونية كونه يحدث في العصر الحديث، عصر الصناعات والتحولات الكبرى التي تتفاخر البشرية فيه بالمخترعات والحداثة وحقوق الإنسان والإنسانية والإعلام والذكاء الاصطناعي وغيره.

إن أكثر ما أثاره «طوفان الأقصى» هو موجة من الانزياحات والانكشافات ولا يزال، وهي عميقة تتطلب التفكير والتروي، ويبدو أن لولاه لما انكشفت الغشاوة عن الكثير ولا انزاحت ظلمتها. ويبدو، أيضا، أن تلك الانزياحات تتطلب تضحية كبيرة وقربانا يقدم ويدفع ثمنه وهو ما تكفلت به المقاومة وشعب غزة قاطبة عن البشرية كلها. وما النصر والهزيمة إلا أحد المعاني التي تجلت انزياحاتها، إذ لم يعد المنتصر إلا مهزوما والمهزوم منتصرا في جوانب أخرى، القوي ضعيف والضعيف قوي. النصر والهزيمة معنيان قد يتساويان في دلالتهما وعمقهما. ففي مجرى العالم وسنن الكون قد تنتصر الدول ليس بالجيوش الجرارة المدججة بالأسلحة، قد يسجل النصر بكلمة أو فكرة أو تمسك بمبدأ، وقد لا يتطلب عناء أو مقاومة أو رفع سلاح في وجه العدو. كذلك تنهزم الدول حتى لو امتلكت جيوشا وأسلحة وأنظمة متطورة وغيرها، وكم من حضارات وقوى أفل نجمها وخفت صيتها حتى تلاشت.

فإذا كان العقل العربي مصابا بلوثة من مجموع من الموروثات التي أعاقته عن التفكير البنّاء وشلت قدرته، فإن ذلك تماما ما ينطبق على العقل الغربي. الحضارة الغربية وهي القوى السائدة والمهيمنة على العالم لها مناقبها ومثالبها ولها ما لها وعليها ما عليها، وكل ذلك مرده للعقل الغربي وانفلاته في التفكير والإبداع، ولا شك أن ذلك كان له الانتصار والقوة والتمييز لكنه في الوقت الذي تفتخر فيه الحضارة الغربية وليدة العقل الغربي لانتصاره وتهلل له لا تخفي هزيمتها ولا تواريها بل يدفع بها دون خجل أو تردد. الموروثات المتراكمة على العقل الغربي التي هي وليدة الكنيسة والحروب الصليبية والثورات المتلاحقة والحروب والدمار الذي عاشته تلك الحضارة في الحربين العالميتين وترسبات الأيديولوجيات والعنصرية والأحزاب والحركات المناهضة للأجانب، وتدخل فيها ترسبات دينية ومجتمعية وعقد تفوق وفوقية وعرقية. كل تلك الموروثات كان لها دور فعّال على العقل الغربي، فأصبح بموجب ذلك لهم موروثاتهم المسؤولة عن كل ما يقومون به. إن أولئك المنتصرين أو الذين يدعون نصرا ومحق عدوهم بهزيمته النكراء ما هم إلا منهزمون أيضاً. الغرب بكل جبروته وعنفوانه يدعي نصراً مؤزراً ويتباهى بذلك، لكن لو تأملنا في ذلك النصر في الحقيقة فلا يعدو إلا هزيمة في أوجه أخرى. هزيمة المنتصر هي الأعنف وهي الهزيمة التي لا يبرى منها بسهولة ويسر. يعتقد الغرب أن من لا يتفق معه أو كما قال بوش الابن «من لا يقف معنا فهو ضدنا»، وقالها ترامب أيضا ويقولها الكثيرون منهم إن لم يكن جهرا فسرا. كيف ينهزم المنتصر؟ أو كيف تنهزم الحضارة الغربية؟ انهزم الغرب عندما سقط قناع الحرية والديمقراطية والعدالة والإنسانية الذي يختبئون خلفه. هزمتهم أطماعهم وانتهازيتهم واستغلالهم لثروات الشعوب، فأمعنوا في التدمير والقتل واستعمارهم لبلدانهم، هزمتهم آلات القتل التي صنعوها وروجوها، فأنتجوا الحروب واشعلوا الفتن والمصائب. هزمتهم لغته المبطنة وكلماتهم الكاذبة ونفاقهم المكشوف، فهم يكذبون ويضللون العالم، يكذبون ليلا نهارا ويكذبون كما يتنفسون. منهزمون أمام الصهيونية العالمية واقعون تحت ضغطها، وهم المنهزمون أمام التوحش الرأسمالي والمادية المقيتة، منهزمون بازدواج معاييرهم وقوانينهم، منهزمون أمام معتقداتهم التي يرون فيها تفوق عرقهم ولونهم وشكلهم، منهزمون أمام المنظمات والمؤسسات التي خلقوها وروجوا لتغلغلها في حياة الشعوب المقهورة، منهزمون أمام القوانين الإنسانية التي خرقوها. هم المنهزمون أمام أيديولوجيات رسموها ورسخوها في فكرهم، ومنهزمون بصعود أحزاب وزعماء شعبويين لا يروجون إلا للعنصرية والتفوق والتعالي على حساب الشعوب الأخرى. والغرب هو المنتصر المهزوم، وتتجلى هزيمته في كل المآسي والكوارث التي لحقت بالأمم والحضارات الأخرى بما فيها ما لحق ولا يزال بالأمة العربية من استعمار وهيمنة اقتصادية وسياسية والعدوان والحروب المستمرة، وانهزم عندما زرع كيان بغيض (إسرائيل) في أراضينا، وهم المنهزمون بدعمهم المستمر للدكتاتوريات.

إن الخلل والعطب الجلل الذي أصاب النفوس وكشف من هو المنتصر المهزوم. ليس الغرب وحده المنهزم والساقط والمنحدر والمتبدل، البشرية كلها سقطت في وحل الطوفان ويتوالى السقوط والهزيمة، إنها هزيمة أخلاقية لا حدود ولا قعر لها. هل نفرح ونهلل لهذه الهزيمة؟ هل نقول شكراً لأننا أدركنا الحقيقة وانزاحت الكلمات وتعرت في عيوننا، وجعلتنا نعيد التفكير في الكثير من المعاني التي لا تزال تضرب الأعماق الداخلية وتخلخل الموازين فينا وتعطب دواخلنا وتسقط. إن العطل لهو كبير وإصلاحه ليس بالأمر الهين. إن هزيمة الغرب المنتصر هي هزيمة إنسانية وحضارية وأخلاقية للبشرية. أمام هذا الجرف الأخلاقي العميق، كلنا نقف عراه وكلنا منهزمون.

بدر الشيدي كاتب عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق