يعيش المرء اليوم في عالم صاخب تختلط فيه الحقيقية بالخيال، والصدق بالتضليل، والوضوح بالغموض، والتصريح بالتمويه، كل شيء يبدو مختلف الأوجه متعدد الاحتمالات، متدرج الأصوات، وما يصدقه المنطق اليوم قد تكذبه الحجج بعد حين، وليس هذا الالتباس سمة لقطاع واحد، كما أن هذه الفوضى ليست في مسار واحد من مسارات الحياة، بل هي سمة الوقت في هذا العصر الذي نعيشه.
ما هي رهانات العقل في عصر الفوضى؟ وما هي مرجعيات الوعي مع واقع الشتات المعرفي وتنوع المصادر؟ ما هي مدة تهاوي التصريحات التي قد تبدو يقينية في حينها؟ وما عمر التحالفات والتشاركات التي قد نتوهم ديمومتها يوما ما؟
يترقب الكاثوليك انتخاب الزعيم الجديد لـ 1.4 مليار كاثوليكي في العالم بعد وفاة البابا فرنسيس عن عمر ناهز 88 عامًا، وإتمام مراسم دفنه، يجتمع الكرادلة من مختلف أنحاء العالم في الفاتيكان لانتخاب بابا جديد خلفًا للراحل فرنسيس، في عملية سرّية تعود لقرون تُعرف باسم «الكونكلاف» أو «المجمع المغلق» لكن من أين يأتي هؤلاء الكرادلة؟ وهل تؤثر التحولات الجيوسياسية داخل الكنيسة في عملية التصويت إذا ما وضعنا بالاعتبار كرادلة آسيا وأفريقيا وممثلي الأقليات المسيحية لأول مرة؟
252 كاردينالًا يشكلون مجمع الكرادلة حاليا، منهم 135 كاردينالًا دون سن الثمانين، يحق لهم التصويت لاختيار البابا الجديد، فهم كبار رجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية، وغالبًا ما يتم تعيينهم كأساقفة، عيّن البابا فرنسيس الغالبية العظمى من الكرادلة المؤهَّلين للتصويت، وعددهم 108، بينما اختار سلفاه -البابا بنديكتوس السادس عشر والقديس يوحنا بولس الثاني- البقية، وأثناء انعقاد «المجمع المغلق»، يُعزلون عن العالم الخارجي ويُمنعون من استخدام الهواتف والإنترنت والصحف، ويقيمون في مبنى سانتا مارثا، وهو بيت ضيافة مكون من خمسة طوابق في مدينة الفاتيكان، ويترددون كل يوم على كنيسة السيستين، حيث يتم التصويت سرًّا؛ فيُدوِّن كل كاردينال اختياره على ورقة اقتراع، ثم يضعها داخل جرة كبيرة من الفضة المزخرفة بالذهب، ويحتاج الفائز إلى أغلبية الأصوات ليرأس الكنيسة، بينما ينتظر الكاثوليك في ساحة سانت بطرس القريبة، مراقبين الدخان المتصاعد من مدخنة كنيسة السيستين، فالأسود يعني عدم التوصل إلى قرار، بينما يشير الدخان الأبيض إلى أن إتمام اختيار البابا الجديد قد تم، وعادةً ما يظهر البابا الجديد -الذي يجب أن يعلن قبوله المنصب رسميًّا أمام مجمع الكرادلة- على الشرفة المطلة على ساحة سانت بطرس في غضون ساعة من انتخابه، حري بالذكر أن أطول «مجمع مغلق» في التاريخ استمر مدة عامين وتسعة أشهر، لكن أصبحت المجمعات المغلقة أسرع منذ أوائل القرن العشرين، حيث باتت تستغرق في المتوسط ثلاثة أيام، بعد تقييد القوانين حياة الكرادلة داخل التجمع، وقد تم انتخاب البابا فرنسيس وسلفه البابا بنديكتوس السادس عشر خلال يومين فقط.
وفقًا للعالِم الكنسي الإيطالي هنريكوس دي سيغوسيو، الذي خدم في ذلك المجمع، فقد هدد السكان المحليون بتقييد طعام الكرادلة من أجل تسريع عملية الوصول إلى قرار، تضمنت القواعد الجديدة التي وضعها البابا غريغوريوس العاشر عزلة المجمع البابوي وهي قاعدة لا تزال سارية حتى اليوم، بالإضافة إلى تقنين طعام الكرادلة، بعد ثلاثة أيام من دون اتفاق، كان يُسمح لهم بتناول وجبة واحدة فقط يوميًّا؛ وبعد ثمانية أيام، كانت الوجبات تقتصر على الخبز والماء، وفي منتصف القرن الرابع عشر، قام البابا كليمنت السادس بتخفيف هذه القواعد، حيث سمح بتقديم وجبات من ثلاثة أطباق، ورغم أن تقنين الطعام لم يستمر، فإن السيطرة المُحكمة على المجامع البابوية ظلت قائمة.
تماشيا مع مسار الدين قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، إن «الرئيس ترامب سافر إلى إيطاليا لإظهار احترامه للبابا فرنسيس ولحضور جنازته، وقد كان مناصرًا قويًّا للكاثوليك وللحرية الدينية»، لكنه وضع بعد ذلك منشورًا له على كل حسابات التواصل الاجتماعي متضمنة صورة نشرها مساء الجمعة، مرتديًا رداء الأساقفة وكأنه يسخر منهم.
انتقد المؤتمر الكاثوليكي لولاية نيويورك، الذي يمثل أساقفة الولاية، الصورة على منصة إكس قائلا: «لا يوجد شيء ذكي أو طريف في هذه الصورة، سيدي الرئيس» مضيفا «لقد دفنّا للتو البابا فرنسيس الحبيب، والكرادلة على وشك الدخول في مجمع رسمي لانتخاب خليفة جديد للقديس بطرس، لا تسخروا منا» كما انتقد رئيس الوزراء الإيطالي السابق اليساري، ماتيو رينزي، منشور ترامب معلقا عبر منصة إكس «هذه صورة تُسيء إلى المؤمنين، وتهين المؤسسات، وتُظهر أن زعيم العالم اليميني يستمتع بالتهريج» لكن البيت الأبيض رفض أي مزاعم بأن الرئيس الجمهوري يسخر من البابوية.
وإن كان البيت الأبيض قد نفى هذه المزاعم فثمة غيرها من التصريحات التي لا يمكن نفيها عن المسار الاقتصادي، خاصة المتعلق منها بعاصفة رفع الضرائب الجمركية على السلع وحربه الاقتصادية مع الصين، رغم ظن البعض بأنها عاصفة مصطنعة كان الرئيس الأمريكي يريد من خلالها تحريك المصالح الأمريكية، بإثارة الرعب من إمكانية زيادة السلع مستقبلا.
ختاما: بين المنطوق والمقصود مسافة دلالية وأخرى زمنية تحتاجها منطوقات العصر الحديث، خصوصا في السياقين السياسي والاقتصادي لكن ما هو يقيني لا جدال فيه أن من يملك السلطة يملك قوة المنطق والتفسير معا، ولا عزاء للصامت أو المُستَنطَق.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
0 تعليق