وأنا أبدأ يومي مع صحيفة «الوطن»، لفت انتباهي عنوان بارز في الصفحة الأولى عن نظام «التفتيش الذكي». قرأت الخبر بعناية، لكن عقلي لم يستطع البقاء ساكناً أمام هذا التطور، فتسللت أفكاري على الفور إلى أزقة سوق المنامة الشعبي، وأخذتُ أتخيل المشهد كما لو أنني هناك الآن.
بدأتُ أسمع في مخيلتي أصوات الباعة، وهي ترتفع كأنها نداءات شعبية تتداخل في زحمة السوق، وروائح البخور تمتزج بالعطور الشرقية والأقمشة الملونة، حتى شعرتُ أنني أعيش اللحظة تماماً مثل أيام طفولتي، حين كانت هذه الأسواق الشعبية هي وجهتنا الأولى قبل عصر المجمّعات الكبيرة والماركات العالمية التي جعلت منّا مستهلكين «رَزَّة».
تذكرت كيف كنا صغاراً نمسك بأيدي أمهاتنا، ونتجول بين المحلات الصغيرة المتلاصقة، حيث كل بائع يقسم لك أنه يبيع بخسارة، وكيف كانت عملية الشراء مهمة صعبة مليئة بالمكاسر والنقاش الطويل.
في هذه اللحظة، تخيلتُ مشهداً مختلفاً لم نعتده من قبل. رأيتُ مجموعة من العمال الأجانب داخل السوق، ومعهم شباب بحرينيون يرتدون بطاقات رسمية وشريطاً أحمر مميزاً. لم يكن الموقف عادياً أبداً، فقد بدأ المفتش البحريني يسأل باللهجة البحرينية بكل ثقة، والعامل الأجنبي يجيب بلغته الأصلية دون أي ارتباك. حوار طبيعي جداً دون إشارات ولا محاولات معقدة للشرح، وكأننا أمام مشهد مقتبس من جلسة تفاوض في الأمم المتحدة، وليس في قلب سوق شعبي بسيط!
قلتُ في نفسي مبتسماً: «لطالما كان البحريني معروفاً بانفتاحه وتقبله للثقافات، لكن هذه المرة يبدو أنه أخذ الأمور لمستوى أعلى!». سرعان ما اكتشفت السرّ وراء ذلك، فالجهاز اللوحي بين يدي المفتش هو من كان يترجم الحوار فوراً بكل سلاسة ودقة.
هنا أدركت أننا دخلنا بشكل رسمي في عصر الذكاء الاصطناعي، وأن مفتشينا تحولوا إلى نسخ مطورة من «جوجل ترانسليت» لكن على شكل إنسان بحريني! وأخذت أفكر في فوائد هذا التطور، وكيف ستقل الأخطاء، وتزداد سرعة الاستجابة، وكيف يمكن أن يُسهم هذا النظام في تعزيز الرقابة وحماية حقوق العمال وأصحاب الأعمال على حد سواء. تطور يبدو بسيطاً، لكنه قادر على حل عشرات المشكلات اليومية التي كانت تستهلك وقتاً وجهداً من المفتشين والعمال معاً.
استمرت هذه اللقطة الجميلة في مخيلتي لدقائق، قبل أن ينتقل المفتشون بخفة وسرعة إلى المحل التالي. واضح أن عصر الدفاتر والأوراق الثقيلة قد انتهى ليحل محله عصر التقنيات الذكية التي نلمس نتائجها الآن أمام أعيننا. هذه النتائج، بالتأكيد، لم تأتِ من فراغ، وإنما جاءت نتيجة رؤية إدارية واعية وتوجيهات عليا داعمة، تُترجمها على أرض الواقع كفاءات حقيقية تعمل بهدوء وإتقان لتطوير وتحسين أداء العمليات الحكومية.
هذه الصورة المتخيّلة جعلتني أتفاءل كثيراً، ليس فقط بسبب التكنولوجيا الجديدة التي تسهّل حياة الناس وتسرّع الإجراءات، بل لأننا بدأنا فعلاً نرى التكنولوجيا تساعدنا في أبسط تفاصيل حياتنا اليومية. والأجمل أن هذا التطور يأتي بأيدٍ بحرينية شابة تؤكد أن «شبابنا فيهم الخير والبركة» وأن الرهان على الكفاءات الوطنية دائماً رهان رابح.
وضعت الجريدة جانباً وأنا أبتسم وأتأمل، قائلاً لنفسي: «طالما وصلنا لهذه الدرجة من التقدم، فمن يدري؟ ربما يأتي اليوم الذي نجد فيه روبوتات تتجول بيننا في سوق المنامة الشعبي، وتقوم بعمل المفتشين!».* خبير تقني
0 تعليق