الوساطة العُمانية.. نهاية استراتيجية الردع وهندسة السلام الممكن

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في ظل الانهيار التدريجي للنظام العالمي وتراجع دور مؤسسات المجتمع الدولي، يعيش الشرق الأوسط حالة سيولة متزايدة تحوّلت من مرحلة الترقب إلى طور المواجهات المفتوحة في لحظة «ما بعد النظام».

وأمام هذا التأزم انتقل الوضع في الشرق الأوسط من مرحلة الحذر والترقب إلى مرحلة المواجهة الحقيقية، وكانت المواجهات الأمريكية والإسرائيلية مع اليمن أحدث فصول تلك المواجهات التي اعتبرها البعض إرهاصات لمواجهات أكبر وأوسع وأخطر فيما لو استمرت وذهبت إلى المسار الأصعب.

ومرة أخرى برز دور سلطنة عمان المحوري في نزع فتيل النار؛ فبعد أيام من نجاحها في جمع الولايات المتحدة وإيران إلى طاولة التفاوض حول الملف النووي بعد انقطاع دام ثماني سنوات تقريبا، نجحت وساطة جديدة في الوصول إلى تفاهم بين أمريكا وجماعة «أنصار الله» في اليمن فيما يمكن أن يكون «سلاما موضعيا» في منطقة تتنازعها أدوات الحرب وأوهام الردع. ويقضي التفاهم مبدئيا بوقف الضربات الجوية الأمريكية على «أنصار الله»، مقابل التزام هؤلاء بوقف استهداف السفن الأمريكية في البحر الأحمر وباب المندب.

ومن غير الواضح ما إذا كان هذا التفاهم يمكن أن يصمد أو يتداعى في ظل السياسة الأمريكية التي يصعب التنبؤ بسلوكها فإن الأمر يعكس تحوّلًا في البنية النفسية والعسكرية للنزاع في المنطقة وأنّ ما كان مستحيلا بات اليوم ممكنا.

وأثبتت الضربات الجوية الأمريكية على صنعاء محدودية تأثيرها في تفكيك البنية القتالية لأنصار الله، بل على العكس فإن الضربات التي كان لها تأثير إنساني خطير جدا أعطى «أنصار الله» مبررا منطقيا للانتقام والإصرار على مواصلة إسناد غزة ومواصلة استهداف النقل البحري في البحر الأحمر والذي وإن كان تأثيره رمزيا إلا أنه دفع بالمجتمع الدولي إلى حافة أزمة شحن بحرية واقتصادية حيث ارتفعت أقساط التأمين، وأعيد توجيه طرق التجارة نحو مسارات أطول وأكثر تكلفة، وانكمشت تدفقات البضائع نحو موانئ قناة السويس والبحر الأبيض المتوسط.

في هذا المشهد الصعب كانت الدبلوماسية العمانية تتحرك لتثبت للجميع أن الحسم بالقوة ما هو إلا أحد الأوهام التي تسيطر على الفعل السياسي في منطقة الشرق الأوسط. فعلى العكس من المقاربات السابقة في المنطقة والتي حاولت فرض ترتيبات أمنية من أعلى، تبنّت مسقط أسلوب التفاوض من قاعدة التفاهمات المشتركة. لم تأتِ المبادرة من موقع استعلاء إقليمي، بل من موقع ثقة تاريخية اكتسبتها عُمان في علاقاتها الهادئة مع كل الأطراف، من واشنطن إلى طهران، ومن أنصار الله إلى المجلس الرئاسي الذي يمثل الشرعية في اليمن.

وتتجاوز الأهمية الجيوسياسية لوساطة سلطنة عمان توقيتها وتزامنها مع وساطة أخرى أكثر أهمية بين أمريكا وإيران؛ فهي أولًا تعيد الاعتبار للدور الخليجي الذي بدا مؤخرا أنه لا يريد التمحور حول التصعيد العسكري، وثانيًا، تثبت أن مناطق النفوذ في الشرق الأوسط لا يُعاد ترسيمها بالصواريخ، بل بالحوار البعيد عن الأضواء. وثالثا، ترسل إشارة مبطنة للغرب: أن أدوات «الردع عن بعد» لم تعد قادرة وحدها على ضمان أمن الممرات أو تهدئة الصراعات. ورابعا، تثبت للولايات المتحدة وبشكل خاص لليمين المتشدد أن علاقة سلطنة عُمان بأنصار الله يمكن أن يكون لها فائدة استراتيجية لهم في لحظات الحقيقة.

وفي ظل التحديات البنيوية التي تواجه النظام الإقليمي في الشرق الأوسط تكتسب هذه التجربة العُمانية قيمة استراتيجية حيث تطرح نموذجا بديلا للخروج من الأزمات وإعادة تعريف كيفية إدارة التوازنات في عصر لم يعد يسمح باستراتيجيات الغلبة.

قد لا يكون الاتفاق بين واشنطن وأنصار الله نهاية للصراع في اليمن، لكنه قد يكون بداية لنهاية استراتيجية الإنكار المتبادل، وبداية اعتراف بأن الطريق إلى الاستقرار يمر من ممرات ضيقة، تحتاج لصوت العقل أكثر من ضجيج الطائرات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق