loading ad...
بويد فان ديك* - (فورين أفيرز) 30/4/2025
في أوائل آذار (مارس)، مع بدء انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، عادت إسرائيل إلى تكتيك كانت قد استخدمته في وقت سابق من الحرب على غزة: فرض حصار شامل على القطاع، بما في ذلك وقف جميع الإمدادات من الغذاء والدواء والوقود والكهرباء. ووفقًا لمسؤولي الحكومة الإسرائيلية، فإن الهدف هو جعل الحياة لا تطاق لسكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة لإجبار "حماس" على قبول مطالب إسرائيل في محادثات تمديد وقف إطلاق النار.اضافة اعلان
وفي وسائل التواصل الاجتماعي، دافع وزير المالية المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، مرددًا صدى تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، عن قرار الحكومة تطبيق "وقف تام" لتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، واصفًا ذلك بأنه وسيلة لفتح "أبواب الجحيم... بأسرع الطرق وأكثرها فتكًا". ولم تكن هذه ملاحظة معزولة؛ فقد سبق وأن أشار سموتريتش إلى أن منع المساعدات عن غزة مبرَّر حتى لو كلف ذلك تجويعًا جماعيًا للمدنيين. وبعد مرور سبعة أسابيع على بدء الحصار الجديد، وفي حين أعلن "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة أن إغلاق المعابر أدى إلى نفاد جميع مخزونات الغذاء في غزة، قال موشي سعده، عضو الكنيست عن "حزب الليكود" بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للقناة 14 الإسرائيلية: "نعم، سنجوِّع سكان غزة، نعم، هذا واجبنا".
وسط حربٍ قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد يبدو حصار إسرائيل المتكرر لغزة للوهلة الأولى مسألة ثانوية. لكنّ هذا التكتيك -والتبريرات التي قدمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه- أصبح اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي. خلال الأسبوع الذي تُكتب فيه هذه السطور، تعقد "محكمة العدل الدولية" جلسات استماع حول هذه المسألة، بناءً على طلب من "الجمعية العامة للأمم المتحدة" للتحقيق في ما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت "ميثاق الأمم المتحدة" من خلال منع وكالة (الأونروا)، وهي الوكالة الأممية الأساسية التي تقدم المساعدات في غزة، من أداء مهامها.
وكانت "المحكمة الجنائية الدولية" قد أصدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي مذكرات توقيف دولية -ليس بحق قادة "حماس" فحسب، ولكن أيضًا بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. في حالة "حماس"، تتعلق التهم بالأعمال التي ارتُكبت خلال هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ضد مدنيين إسرائيليين. أما التهم الموجهة إلى نتنياهو وغالانت، فتتمحور حول جريمة مختلفة ونادرًا ما يجري التعامل معها: يتهمهما المدعي العام للمحكمة، كريم خان، بتنسيق سياسة تجويع إجرامية والإشراف عليها ضد السكان المدنيين في غزة.
في تصنيفه لجرائم الحرب، يتضمن "نظام روما الأساسي" -المعاهدة التي أسست "المحكمة الجنائية الدولية" في العام 1998- بندًا عن "استخدام التجويع المتعمد للمدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، وهو تكتيك يمكن أن يشمل "العرقلة المتعمدة لوصول الإغاثة الإنسانية". ووفقًا لادعاء المدعي العام، فإن إعلان إسرائيل الصريح عن نيتها فرض حصار كامل على غزة، وتطبيقها إجراءات تحرم سكانها من الغذاء والسلع الأساسية اللازمة لبقاء المدنيين، يشكل جريمة حرب متمثلة في التجويع. وهذه أول مرة في التاريخ يتم فيها توجيه اتهام أساسي في محكمة جرائم حرب استنادًا إلى هذه الجريمة بالتحديد.
مع تطور الحرب في غزة، كانت عواقب الحصار هائلة وبعيدة المدى. في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وبعد عام من الحرب التي كانت خلالها شحنات المساعدات تصل بوتيرة بطيئة للغاية، وجدت دراسة غذائية مدعومة من الأمم المتحدة أن نحو أربعة أخماس سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة كانوا يواجهون "جوعًا شديدًا".
والآن، مع تصعيد الجيش الإسرائيلي هجومه البري الجديد بشكل كبير، تتصاعد المخاوف من أن الأزمة الإنسانية قد تعود إلى مستويات كارثية، أو حتى تتجاوز الكارثة. في أوائل نيسان (أبريل)، أعلن "برنامج الأغذية العالمي" أن جميع المخابز الخمسة والعشرين التي يدعمها في غزة -والتي كانت حيوية لبقاء المدنيين خلال مراحل سابقة من الحرب- قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الطحين والوقود. ونظرًا إلى أن الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفر جزءًا كبيرًا من مياه الشرب في غزة، فإن نحو 91 بالمائة من السكان يواجهون الآن انعدام الأمن المائي، مما يزيد من تفاقم نقص الغذاء ويعيد شبح انتشار الأمراض.
ووفقًا لـ"مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (OCHA)، فإن سكان غزة يدخلون الآن في أطول فترة من دون مساعدات إغاثية منذ بدء الأعمال العدائية في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقال متحدث باسم المكتب مؤخرًا: "في الوقت الراهن، ربما تكون هذه أسوأ حالة إنسانية شوهدت خلال الحرب بأكملها".
مع ذلك، وعلى الرغم من الآثار الواضحة للسياسات التي تتبعها إسرائيل، تواجه "المحكمة الجنائية الدولية" معركة شاقة. من ناحية، لم تحاول المحكمة من قبل ملاحقة زعيم دولة غربية. وبذلك وضعت مذكرات الاعتقال الدول الأعضاء في المحكمة، وخاصة حلفاء إسرائيل الأوروبيين وكندا، في موقف حرج؛ لأنه إذا دخل نتنياهو -أو غالانت- إلى أي من هذه الدول، فإن سلطاتها ملزمة قانونياً باعتقاله. (تجاهَل رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، هذا الالتزام عندما استضاف نتنياهو في أوائل نيسان/ أبريل). وقد عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة ضد الإسرائيليين منذ البداية، وشرع الرئيس دونالد ترامب في تقويض "المحكمة الجنائية الدولية" نفسها، وسحب الدعم الأميركي لملاحقة المحكمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهم جرائم حرب، وفرَض في شباط (فبراير) عقوبات على مسؤولي المحكمة تهدف إلى جعل عملياتها شبه مستحيلة. وبسبب الخوف على مستقبلها، سارعت المحكمة إلى صرف رواتب موظفيها مقدماً، وناشدت دول الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح نفسه الذي تسعى المحكمة إلى محاكمته -الإكراه الاقتصادي- يُستخدم الآن ضدها. وكما قالت رئيسة "المحكمة الجنائية الدولية"، توموكو أكاني، أمام البرلمان الأوروبي في آذار (مارس)، فإن "المحكمة تواجه تهديداً وجودياً".
لكن التحدي لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب؛ إنه يمتد ليشمل أيضاً جوهر القضية القانونية. فعلى الرغم من التاريخ الطويل والمدمر لاستخدام التجويع المتعمد ضد المدنيين، يظل إثبات هذه الجريمة صعبًا للغاية، ونادراً ما تمت محاسبة الأطراف التي ارتكبتها. ولذلك، يسلط تحرك "المحكمة الجنائية الدولية" الضوء على أزمة الجوع الجماعي الحادة في غزة، وكذلك على التحديات المستمرة التي تطرحها ملاحقة جريمة التجويع كجريمة حرب. ولكن، على الرغم من العقبات القانونية الجسيمة، استقطبت خطوة المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" الانتباه العالمي نحو أحد أخطر أشكال الحرب ضد المدنيين -وهو شكل غالباً ما بقي بعيداً عن الأنظار. وسواء نجحت القضية أم لا، فإن السابقة التي ستُسجّل يمكن أن تعيد رسم الحدود القانونية للحرب، وتجبر الدول على مواجهة قوانين طالما اعتقدت أنها لا تنطبق عليها.
السلاح المفضل للغرب
على الرغم من أن ملايين المدنيين قُتلوا في القرن العشرين نتيجة استراتيجيات الحصار والتجويع، فإن الجهود الرامية إلى اعتبار التجويع جريمة حرب تظل حديثة نسبياً. وعلى عكس الجرائم الأخرى التي تم تقنينها بعد الحربين العالميتين، لم يُحظر استخدام التجويع كسلاح في الصراعات المسلحة بموجب القانون الدولي إلا في العام 1977. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من الحظر الصريح، كانت محاكمات هذه الجريمة نادرة للغاية. ولم تُضمن معظم المحاكم الجنائية الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحكمة الخاصة بالجرائم في يوغوسلافيا السابقة في أوائل التسعينيات، جريمة التجويع القسري في لوائحها التأسيسية، ناهيك عن السعي إلى محاكمتها.
من الأسباب الرئيسية لهذا الاسثناء أن حصارات التجويع كانت جزءاً لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الغربي طوال القرن العشرين، وقد اعتبرها كثير من رجال الدولة أداة ضرورية للحفاظ على النظام الدولي. خلال الحرب العالمية الأولى، رأى مخططو الحصار في ألمانيا والمملكة المتحدة أن السكان المدنيين يمثلون العمود الفقري للجيوش الحديثة: وبذلك، في الحرب الشاملة، لم يكن قطع واردات الغذاء عن المدنيين أمراً مقبولاً فحسب، بل ضرورياً. ومنذ العام 1914، فرضت المملكة المتحدة حصاراً بحرياً على جميع دول الوسط، ما أسفر في النهاية عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين. وكان هذا التكتيك -المعروف باسم Hunger blockade (حصار الجوع)- فعالاً بطريقة مرعبة، حتى أن كلاً من المنتصرين والمهزومين اعتبروه سلاحاً حاسماً في الحرب أدى إلى انهيار المجتمعين الألماني والنمساوي المجري في العام 1918.
وفي الحرب العالمية الثانية، أصبحت حملات التجويع أكثر أهمية، واعترفت بها كل من قوات "الحلفاء" و"المحور" كوسيلة لقتل المدنيين الأعداء بشكل صريح. في إطار حربها الشاملة ضد اليابان، أطلقت الولايات المتحدة "عملية التجويع"، وهي حصار جوي وبحري هدف إلى قطع الغذاء والمواد الخام. وبعد الحرب، حوكم النازيون في محاكمات نورمبرغ على أفعال تجويع المدنيين، لكنها كانت ضمن جرائم كبرى مثل الإبادة الجماعية. وفي المقابل، لم يواجه "الحلفاء" المنتصرون، أي محاسبة على الإطلاق.
استمر احتضان الغرب للاستراتيجية القائمة على التجويع طويلاً بعد سقوط هتلر في العام 1945، وغابت مناقشة هذا التكتيك عن كثير من بنود القانون الدولي بعد الحرب. وعلى سبيل المثال، لم تتناول "اتفاقية الإبادة الجماعية" للعام 1948، ولا "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، مسألة تجويع المدنيين بشكل صريح. لكن صياغة "اتفاقيات جنيف" تلقي ضوءًا أوضح على سبب تهميش جرائم التجويع بعد الحرب العالمية الثانية.
حقوق المحاصِر وأخطاؤه
عندما اجتمع ممثلو الدول في جنيف في منتصف العام 1949 لصياغة اتفاقيات تهدف إلى حماية ضحايا الحروب، سعت العديد من الدول إلى ترسيخ ضمانات إنسانية أقوى في النزاعات المسلحة. وعلى وجه الخصوص، دفعت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، إلى جانب العديد من ممثلي الدول التي كانت خاضعة للاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، نحو وضع ضمانات لعبور المساعدات الإنسانية ومنع تدمير الأشياء الأساسية لبقاء المدنيين على قيد الحياة.
لكنّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا مصرتين على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصارات، ورفضتا أي بنود قد تحدّ من قوتهما البحرية أو الجوية. وبالنظر إلى احتمال وقوع حصارات مستقبلية ضد خصوم شيوعيين أو مناهضين للاستعمار، نجحت الدولتان في إضعاف هذه المقترحات. وساعد هذا التوافق الناتج في ترسيخ إجماع قانوني في حقبة الحرب الباردة بشأن حصارات التجويع. فبينما لم تحظر التكتيك بشكل صريح، أدانت "اتفاقيات جنيف" نهب الأراضي، وحمت عمال الإغاثة، واعتبرت -ولو اسمياً- مبدأ وصول المساعدات الإنسانية حقاً مشروعاً، غير أن حماية هذا الوصول أُضعفت كثيراً بسبب الشروط التقييدية وصلاحيات التفتيش الواسعة، مما أتاح للمحاصِرين عرقلة وصول المساعدات بناءً على مجرد الشك بأنها قد تفيد العدو.
بعد العام 1949، لم يتمكن المحاصِرون من استعادة الحق القانوني في تجويع المدنيين بشكل متعمّد كأداة مشروعة في الحروب. ومع ذلك، استطاعوا خلق استثناءات قانونية واسعة، حيث أُتيح اعتبار موت المدنيين غير المتعمد مقبولاً قانونياً ضمن ظروف محددة. وعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة أساليب التجويع على نطاق واسع في حرب فيتنام، من خلال تدمير المحاصيل بشكل منهجي في المناطق التي يُشتبه في إيوائها مقاتلين شيوعيين. وفي ظل هذا الإطار القانوني الناشئ، أمكن للحكومات المتحاربة أن تزعم أن تجويع المقاتلين الأعداء هو عمل قانوني، وبذلك يُعتبر موت المدنيين نتيجة مأساوية -لكنها شبه حتمية- لأسلوب مشروع من أساليب الحرب الحديثة ضد أعداء شموليين.
كما هو معروف، نادرًا ما تكون المجاعات في زمن الحرب متعمدة من بدايتها حتى نهايتها؛ في أغلب الأحيان، تكون المجاعة نتيجة لسياسات حصار تُعلي من شأن الاحتياجات العسكرية على حساب حياة المدنيين. ولكن، بحلول سبعينيات القرن الماضي، قادت موجة من الدول المستقلة حديثاً -خصوصاً في إفريقيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى- جهداً جديداً لتجريم تكتيكات التجويع، مدفوعة بتجاربها المباشرة مع هذا النوع من الحروب التي شنتها القوى الاستعمارية السابقة. وخلال المفاوضات التي أدت إلى إضافة بروتوكولَين جديدين إلى "اتفاقيات جنيف" في العام 1977، دفعت هذه الدول في اتجاه وضع قواعد صارمة ضد القصف العشوائي وتدمير المحاصيل والتجويع.
مع ذلك، لم تدعم كل دول ما بعد الاستعمار فرض حظر شامل على هذه التكتيكات. وعلى سبيل المثال، استغلت نيجيريا الثغرات القانونية في اتفاقيات العام 1949 عن عمد، وبشكل مدمر، خلال حرب نيجيريا-بيافرا في أواخر الستينيات، واختبرت الفوائد التكتيكية للتجويع في قمع التمردات الانفصالية. ونتيجة لذلك، كبحت البنية القانونية الدولية الجديدة استخدام التجويع في الحروب بين الدول وأثناء الاحتلالات، لكنها توقفت دون تجريمه بالكامل، خصوصاً عندما تستخدمه دول فقيرة ضد جماعات متمردة في الحروب الأهلية.
النتائج والأثر
ترتّبت على هذا الواقع عواقب وخيمة. ظلت الأقليات عديمة الجنسية أو المهمّشة -مثل البيافرا، والدرفوريين، والأكراد، والتيغراي- عُرضةً للحصار بقصد التجويع الذي مارسته حكومات معادية. وحتى بعد أن اعتُبر التجويع جريمة حرب وفق "نظام روما الأساسي"، لم يشمل هذا التصنيف سوى النزاعات المسلحة بين الدول. واستغرق الأمر حتى العام 2019 لتقوم دول، من بينها ألمانيا، بالاعتراف رسمياً بأن التجويع يُعدّ جريمة حتى في الحروب الأهلية. ومع ذلك، وحتى إقامة القضية ضد إسرائيل، لم يُحاكم أي طرف بارتكاب جريمة التجويع كجريمة قائمة بذاتها. وعلى الرغم من أن الجريمة مُقنّنة في القانون المُعاهَداتي، فإن اتهام طرف بها ظل يُعتبر شأنًا بالغ الحساسية سياسيًا، ومتشابكًا بشدة مع استراتيجيات الدول القوية. وبذلك، استمر استخدام التجويع كسلاح عسكري -ليس لأنه رخيص الكلفة، وبسيط، وفعّال بوحشية فحسب، وإنما لأن من الصعب المعاقبة عليه أيضًا.
تحاول أوامر التوقيف الصادرة عن "المحكمة الجنائية الدولية" في حق قادة إسرائيل تحدي هذا الإفلات الطويل من العقاب. لكن القضية تكشف أيضًا عن الصعوبات المستمرة في مقاضاة جرائم التجويع: إذ يتوجب على المدّعين إثبات أن القيادة الإسرائيلية حرمت، عن عمد وبعلم، السكان المدنيين في غزة من المواد الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. وكما هو الحال في جرائم الإبادة الجماعية، يُعتبر إثبات النية أمرًا بالغ الصعوبة. في حال وقوع مجاعة جماعية خلال صراع مسلح، يستطيع القادة السياسيون أو العسكريون الإيحاء بأن الوفيات الناجمة ليست سوى نتيجة مؤسفة لحرب عصرية.
بالإضافة إلى ذلك، تجعل الطريقة التي تُفرَض بها الحصارات من الأصعب تثبيت الجريمة. في حملات القصف يكون المصدر واضحًا والنتائج فورية، وغالبًا مذهلة بصريًا. أما في حالة الحصارات، فإن آثارها التدميرية تتكشف بصورة غير مباشرة، وبمرور الوقت، وغالبًا بعيدًا عن الأنظار. وهي تكون نتيجة لروتين إداري -طلبات رُفضت، معابر أُغلقت، شحنات أُعيقت- تشرف عليه بيروقراطية ليس لها وجه يمكن تمييزه. وكما وصفت الأمر الفيلسوفة هانا آرندت من قبل، فإن أساليب التجويع هي من أعمال "القاتل المكتبي": منهجية، خفية، وغالبًا ما تُبرر بمسوغات بديلة، مثل الضرورات الأمنية أو منع تهريب الأسلحة. وهذا الطابع الخفي للعملية هو ما حمى حملات التجويع لفترة طويلة من الملاحقة القانونية.
ولنتأمل الحرب الأهلية السودانية الدائرة منذ عامين بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع"، التي أدّت إلى نقص كارثي في الغذاء لأعداد تفوق تلك التي في غزة. في منتصف العام 2024، خلصت الأمم المتحدة إلى أن 18 مليون سوداني يعانون من "جوع حاد"، من بينهم نحو 3.6 مليون طفل. وكما كتب أليكس دي وال في مجلة "فورين أفيرز"، فإن "هذا الوضع الكارثي كان نتيجة مباشرة لأعمال الطرفين في الحرب الأهلية السودانية المروّعة". وقد فتح المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" تحقيقًا بشأن جرائم الحرب في إقليم دارفور -وهو إقليم خاضع لاختصاص المحكمة منذ إحالته إليها من مجلس الأمن في العام 2005- حيث تحاصر "قوات الدعم السريع" مدينة الفاشر؛ عاصمة شمال دارفور. مع ذلك، وعلى الرغم من تزايد التقارير التي تربط الأزمة الإنسانية في البلاد بتكتيكات تجويع متعمَّدة، لم توجه المحكمة حتى الآن أي اتهامات علنية بالتجويع كجريمة حرب في السياق السوداني. (ولكن في نيسان/ أبريل، تناولت "محكمة العدل الدولية" هذه القضية في دعوى إبادة جماعية رفعتها الحكومة العسكرية السودانية ضد الإمارات العربية المتحدة، تتهم فيها الإمارات بدعم تكتيكات التجويع التي تتبعها قوات الدعم السريع).
باتخاذه حرب غزة كنقطة انطلاق لأول مقاضاة لجرائم التجويع، يبدو أن المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" اعتبر أن التصريحات العلنية الصريحة لقادة إسرائيل تُشكّل دليلاً غير معتاد على وجود نية جنائية، على الرغم من العقبات القضائية المختلفة. ففي 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بعد يومين من هجمات "حماس"، أعلن يوآف غالانت عن "حصار كامل" لغزة، آمرًا بقطع الكهرباء والطعام والوقود، وواصفًا سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية". وبالمثل، في الأسابيع الأولى من الحرب ثم مرة أخرى لاحقًا، رفض بنيامين نتنياهو علنًا السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وخلال السنة الأولى من الحرب، بدأت إسرائيل في السماح بدخول كميات محدودة من المساعدات إلى القطاع، في الغالب نتيجة للإدانات الدولية والضغط من إدارة بايدن. ولكن في الآونة الأخيرة، بدلاً من تخفيف لهجتها العلنية، ضاعفت القيادة الإسرائيلية من خطابها التصعيدي، معيدة فرض الحصار الكامل ومستأنفة حملة القصف. وفي آذار (مارس)، على سبيل المثال، انضم وزير الدفاع الجديد، يسرائيل كاتس، إلى وزراء آخرين في الحديث عن فتح "أبواب الجحيم" على الغزّيين. وقد حوّلت هذه التصريحات العلنية من قادة إسرائيل جريمة التجويع -التي لم تتم مقاضاتها سابقًا- إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ"الثمرة الدانية للقطاف"، وجعلت من تهمة التجويع محورًا رئيسًا في أوامر التوقيف الصادرة عن "المحكمة الجنائية الدولية".
ومع ذلك، يطرح تركيز المدعي العام للمحكمة على خطاب المسؤولين الإسرائيليين أسئلة أعمق بشأن جدوى السعي إلى تحقيق العدالة في جرائم التجويع. هل كانت المحكمة لتصدر أوامر اعتقال لو أن نتنياهو وغالانت كانا أكثر حذرًا في تصريحاتهما العلنية؟ يشير البيان الصحفي الذي أعلن قرار المحكمة إلى أنه لو تجنبت القيادة الإسرائيلية التصريح صراحةً بفرض حصار تجويعي -بغض النظر عن النتائج الفعلية للتكتيك- لكانت التهم قد اقتصرت على "مسؤولية القيادة" عن الهجمات المباشرة على المدنيين وجرائم ضد الإنسانية. وهي بحد ذاتها تهم جسيمة، لكنها ربما لا تُلحق الضرر نفسه الذي تلحقه تهمة التجويع، لما تنطوي عليه من إيحاء بنية تدمير جماعة مدنية بشكل كلي أو جزئي.
نقطة تحول؟
على الرغم من العقبات السياسية الهائلة التي تواجه "المحكمة الجنائية الدولية" اليوم، قد لا تفضي القضية ضد إسرائيل إلى أي نتيجة. ومع ذلك، فإن تركيز المحكمة على جريمة التجويع قد يحمل آثارًا قانونية على صراعات حديثة وجارية أخرى. ففي منطقة البحر الأحمر ووسط أفريقيا، تستمر أطراف النزاع في استخدام الحصار والتجويع كسلاح من دون رادع فعلي. ووفقًا للسوابق التي أُرسيت في "اتفاقيات جنيف" للعام 1949، تواصل الدول التي تستخدم هذه الأساليب الادّعاء بأن المجاعات الناتجة عنها إما غير موجودة، أو أنها مجرد نتائج جانبية غير مقصودة لأعمال مشروعة ضد مقاتلين أعداء. وعلى الرغم من أن ذلك قد لا يغيّر من معاناة الفلسطينيين، فإن أوامر التوقيف بحق القادة الإسرائيليين تُعدّ نقطة تحول قانونية صغيرة -ولكنها مهمة- قد تسهم في توضيح -أو حتى خفض العتبة المطلوبة- لإثبات النية في ملاحقات قادمة، سواء أمام محاكم دولية أو وطنية. ويوحي توقيف الرئيس الفلبيني السابق، رودريغو دوتيرتي، مؤخرًا، في لاهاي، بأن مثل هذه الجهود ليست عديمة الجدوى بالضرورة.
يكتسي توقيت قرار "المحكمة الجنائية الدولية" بأهمية خاصة. إنه لا يتزامن مع تزايد القلق إزاء خطر المجاعة الجماعية في شمال غزة فحسب، بل يؤشر أيضًا على تحول طويل الأمد في المواقف العالمية تجاه استخدام التجويع كسلاح. صحيح أن هذه الاستراتيجية ما تزال مرتبطة بأولويات الدول الكبرى، حيث تستعد الصين لاحتمال فرض حصار خانق على تايوان، وما تزال وزارة الدفاع الأميركية تقبل الحصارات التجويعية كأساليب قانونية محتملة في الحروب ضد الأعداء. ولكن منذ أواخر التسعينيات، ظل محامون تقدميون ومنظمات غير حكومية وقوى ناشطة أخرى يضغطون على الدول والمحاكم من أجل تجريم أساليب التجويع، التي كشفت الصراعات الحديثة عن كلفتها المدنية غير المقبولة.
الآن، تشكل قضية "المحكمة الجنائية الدولية" ضد إسرائيل -بما تنطوي عليه من إشارة إلى أنه حتى الحلفاء الأقوياء للغرب يمكن محاسبتهم- اختباراً حقيقياً لهذه الأعراف العالمية المتغيّرة. في أواخر نيسان (أبريل)، أفادت صحيفة "الغارديان" بأن كريم خان، المدعي العام للمحكمة، تقدّم بطلبات لإصدار أوامر اعتقال إضافية بحق مسؤولين إسرائيليين، وهو ما يشير إلى أن القضية قد تتوسّع أكثر.
في وقت تسعى فيه القوى الأوروبية الكبرى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية سريعاً في عالم لم يعد فيه الاعتماد على المظلة الدفاعية الأميركية مضموناً، تجد هذه الحكومات نفسها أمام خيار مصيري: إما أن تُطبّق المبادئ الدولية التي لطالما ادّعت الدفاع عنها، أو أن تتخلّى عن ادعاءاتها بالقيادة الأخلاقية. وبالقدر نفسه من الأهمية، على دول الجنوب العالمي الكبرى -التي لطالما انتقدت، عن حق، المحاكم الدولية لاستهدافها بشكل حصري أطرافاً غير غربية أو خصوماً مباشرين للغرب- أن تتحمّل مسؤوليتها الآن. إذا كانت هذه الدول تطمح إلى استعادة دورها كمدافع عن القانون الدولي، فإن عليها أن تدعم جهود "المحكمة الجنائية الدولية" و"محكمة العدل الدولية"، لا بالقول فقط، وإنما بالفعل.
وإلا، فإن هاتين المؤسستين، والقواعد الدولية التي تسعيان إلى تطبيقها، ربما يلقى بها في غياهب النسيان واللاجدوى.
في أوائل آذار (مارس)، مع بدء انهيار اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس"، عادت إسرائيل إلى تكتيك كانت قد استخدمته في وقت سابق من الحرب على غزة: فرض حصار شامل على القطاع، بما في ذلك وقف جميع الإمدادات من الغذاء والدواء والوقود والكهرباء. ووفقًا لمسؤولي الحكومة الإسرائيلية، فإن الهدف هو جعل الحياة لا تطاق لسكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة لإجبار "حماس" على قبول مطالب إسرائيل في محادثات تمديد وقف إطلاق النار.اضافة اعلان
وفي وسائل التواصل الاجتماعي، دافع وزير المالية المتطرف، بتسلئيل سموتريتش، مرددًا صدى تصريحات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، عن قرار الحكومة تطبيق "وقف تام" لتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، واصفًا ذلك بأنه وسيلة لفتح "أبواب الجحيم... بأسرع الطرق وأكثرها فتكًا". ولم تكن هذه ملاحظة معزولة؛ فقد سبق وأن أشار سموتريتش إلى أن منع المساعدات عن غزة مبرَّر حتى لو كلف ذلك تجويعًا جماعيًا للمدنيين. وبعد مرور سبعة أسابيع على بدء الحصار الجديد، وفي حين أعلن "برنامج الأغذية العالمي" التابع للأمم المتحدة أن إغلاق المعابر أدى إلى نفاد جميع مخزونات الغذاء في غزة، قال موشي سعده، عضو الكنيست عن "حزب الليكود" بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للقناة 14 الإسرائيلية: "نعم، سنجوِّع سكان غزة، نعم، هذا واجبنا".
وسط حربٍ قُتل فيها عشرات الآلاف من المدنيين بوسائل أكثر مباشرة، قد يبدو حصار إسرائيل المتكرر لغزة للوهلة الأولى مسألة ثانوية. لكنّ هذا التكتيك -والتبريرات التي قدمها المسؤولون الإسرائيليون لاستخدامه- أصبح اختبارًا رئيسيًا للقانون الدولي. خلال الأسبوع الذي تُكتب فيه هذه السطور، تعقد "محكمة العدل الدولية" جلسات استماع حول هذه المسألة، بناءً على طلب من "الجمعية العامة للأمم المتحدة" للتحقيق في ما إذا كانت إسرائيل قد انتهكت "ميثاق الأمم المتحدة" من خلال منع وكالة (الأونروا)، وهي الوكالة الأممية الأساسية التي تقدم المساعدات في غزة، من أداء مهامها.
وكانت "المحكمة الجنائية الدولية" قد أصدرت في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي مذكرات توقيف دولية -ليس بحق قادة "حماس" فحسب، ولكن أيضًا بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. في حالة "حماس"، تتعلق التهم بالأعمال التي ارتُكبت خلال هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ضد مدنيين إسرائيليين. أما التهم الموجهة إلى نتنياهو وغالانت، فتتمحور حول جريمة مختلفة ونادرًا ما يجري التعامل معها: يتهمهما المدعي العام للمحكمة، كريم خان، بتنسيق سياسة تجويع إجرامية والإشراف عليها ضد السكان المدنيين في غزة.
في تصنيفه لجرائم الحرب، يتضمن "نظام روما الأساسي" -المعاهدة التي أسست "المحكمة الجنائية الدولية" في العام 1998- بندًا عن "استخدام التجويع المتعمد للمدنيين كأسلوب من أساليب الحرب"، وهو تكتيك يمكن أن يشمل "العرقلة المتعمدة لوصول الإغاثة الإنسانية". ووفقًا لادعاء المدعي العام، فإن إعلان إسرائيل الصريح عن نيتها فرض حصار كامل على غزة، وتطبيقها إجراءات تحرم سكانها من الغذاء والسلع الأساسية اللازمة لبقاء المدنيين، يشكل جريمة حرب متمثلة في التجويع. وهذه أول مرة في التاريخ يتم فيها توجيه اتهام أساسي في محكمة جرائم حرب استنادًا إلى هذه الجريمة بالتحديد.
مع تطور الحرب في غزة، كانت عواقب الحصار هائلة وبعيدة المدى. في تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وبعد عام من الحرب التي كانت خلالها شحنات المساعدات تصل بوتيرة بطيئة للغاية، وجدت دراسة غذائية مدعومة من الأمم المتحدة أن نحو أربعة أخماس سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة كانوا يواجهون "جوعًا شديدًا".
والآن، مع تصعيد الجيش الإسرائيلي هجومه البري الجديد بشكل كبير، تتصاعد المخاوف من أن الأزمة الإنسانية قد تعود إلى مستويات كارثية، أو حتى تتجاوز الكارثة. في أوائل نيسان (أبريل)، أعلن "برنامج الأغذية العالمي" أن جميع المخابز الخمسة والعشرين التي يدعمها في غزة -والتي كانت حيوية لبقاء المدنيين خلال مراحل سابقة من الحرب- قد أُجبرت على الإغلاق بسبب نقص الطحين والوقود. ونظرًا إلى أن الوقود والكهرباء ضروريان لتشغيل محطات تحلية المياه التي توفر جزءًا كبيرًا من مياه الشرب في غزة، فإن نحو 91 بالمائة من السكان يواجهون الآن انعدام الأمن المائي، مما يزيد من تفاقم نقص الغذاء ويعيد شبح انتشار الأمراض.
ووفقًا لـ"مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية" (OCHA)، فإن سكان غزة يدخلون الآن في أطول فترة من دون مساعدات إغاثية منذ بدء الأعمال العدائية في تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقال متحدث باسم المكتب مؤخرًا: "في الوقت الراهن، ربما تكون هذه أسوأ حالة إنسانية شوهدت خلال الحرب بأكملها".
مع ذلك، وعلى الرغم من الآثار الواضحة للسياسات التي تتبعها إسرائيل، تواجه "المحكمة الجنائية الدولية" معركة شاقة. من ناحية، لم تحاول المحكمة من قبل ملاحقة زعيم دولة غربية. وبذلك وضعت مذكرات الاعتقال الدول الأعضاء في المحكمة، وخاصة حلفاء إسرائيل الأوروبيين وكندا، في موقف حرج؛ لأنه إذا دخل نتنياهو -أو غالانت- إلى أي من هذه الدول، فإن سلطاتها ملزمة قانونياً باعتقاله. (تجاهَل رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، هذا الالتزام عندما استضاف نتنياهو في أوائل نيسان/ أبريل). وقد عارضت الولايات المتحدة بشدة القضية المرفوعة ضد الإسرائيليين منذ البداية، وشرع الرئيس دونالد ترامب في تقويض "المحكمة الجنائية الدولية" نفسها، وسحب الدعم الأميركي لملاحقة المحكمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتهم جرائم حرب، وفرَض في شباط (فبراير) عقوبات على مسؤولي المحكمة تهدف إلى جعل عملياتها شبه مستحيلة. وبسبب الخوف على مستقبلها، سارعت المحكمة إلى صرف رواتب موظفيها مقدماً، وناشدت دول الاتحاد الأوروبي تقديم مساعدات طارئة. ومن المفارقات أن السلاح نفسه الذي تسعى المحكمة إلى محاكمته -الإكراه الاقتصادي- يُستخدم الآن ضدها. وكما قالت رئيسة "المحكمة الجنائية الدولية"، توموكو أكاني، أمام البرلمان الأوروبي في آذار (مارس)، فإن "المحكمة تواجه تهديداً وجودياً".
لكن التحدي لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب؛ إنه يمتد ليشمل أيضاً جوهر القضية القانونية. فعلى الرغم من التاريخ الطويل والمدمر لاستخدام التجويع المتعمد ضد المدنيين، يظل إثبات هذه الجريمة صعبًا للغاية، ونادراً ما تمت محاسبة الأطراف التي ارتكبتها. ولذلك، يسلط تحرك "المحكمة الجنائية الدولية" الضوء على أزمة الجوع الجماعي الحادة في غزة، وكذلك على التحديات المستمرة التي تطرحها ملاحقة جريمة التجويع كجريمة حرب. ولكن، على الرغم من العقبات القانونية الجسيمة، استقطبت خطوة المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" الانتباه العالمي نحو أحد أخطر أشكال الحرب ضد المدنيين -وهو شكل غالباً ما بقي بعيداً عن الأنظار. وسواء نجحت القضية أم لا، فإن السابقة التي ستُسجّل يمكن أن تعيد رسم الحدود القانونية للحرب، وتجبر الدول على مواجهة قوانين طالما اعتقدت أنها لا تنطبق عليها.
السلاح المفضل للغرب
على الرغم من أن ملايين المدنيين قُتلوا في القرن العشرين نتيجة استراتيجيات الحصار والتجويع، فإن الجهود الرامية إلى اعتبار التجويع جريمة حرب تظل حديثة نسبياً. وعلى عكس الجرائم الأخرى التي تم تقنينها بعد الحربين العالميتين، لم يُحظر استخدام التجويع كسلاح في الصراعات المسلحة بموجب القانون الدولي إلا في العام 1977. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من الحظر الصريح، كانت محاكمات هذه الجريمة نادرة للغاية. ولم تُضمن معظم المحاكم الجنائية الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك المحكمة الخاصة بالجرائم في يوغوسلافيا السابقة في أوائل التسعينيات، جريمة التجويع القسري في لوائحها التأسيسية، ناهيك عن السعي إلى محاكمتها.
من الأسباب الرئيسية لهذا الاسثناء أن حصارات التجويع كانت جزءاً لا يتجزأ من التفكير الاستراتيجي الغربي طوال القرن العشرين، وقد اعتبرها كثير من رجال الدولة أداة ضرورية للحفاظ على النظام الدولي. خلال الحرب العالمية الأولى، رأى مخططو الحصار في ألمانيا والمملكة المتحدة أن السكان المدنيين يمثلون العمود الفقري للجيوش الحديثة: وبذلك، في الحرب الشاملة، لم يكن قطع واردات الغذاء عن المدنيين أمراً مقبولاً فحسب، بل ضرورياً. ومنذ العام 1914، فرضت المملكة المتحدة حصاراً بحرياً على جميع دول الوسط، ما أسفر في النهاية عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين. وكان هذا التكتيك -المعروف باسم Hunger blockade (حصار الجوع)- فعالاً بطريقة مرعبة، حتى أن كلاً من المنتصرين والمهزومين اعتبروه سلاحاً حاسماً في الحرب أدى إلى انهيار المجتمعين الألماني والنمساوي المجري في العام 1918.
وفي الحرب العالمية الثانية، أصبحت حملات التجويع أكثر أهمية، واعترفت بها كل من قوات "الحلفاء" و"المحور" كوسيلة لقتل المدنيين الأعداء بشكل صريح. في إطار حربها الشاملة ضد اليابان، أطلقت الولايات المتحدة "عملية التجويع"، وهي حصار جوي وبحري هدف إلى قطع الغذاء والمواد الخام. وبعد الحرب، حوكم النازيون في محاكمات نورمبرغ على أفعال تجويع المدنيين، لكنها كانت ضمن جرائم كبرى مثل الإبادة الجماعية. وفي المقابل، لم يواجه "الحلفاء" المنتصرون، أي محاسبة على الإطلاق.
استمر احتضان الغرب للاستراتيجية القائمة على التجويع طويلاً بعد سقوط هتلر في العام 1945، وغابت مناقشة هذا التكتيك عن كثير من بنود القانون الدولي بعد الحرب. وعلى سبيل المثال، لم تتناول "اتفاقية الإبادة الجماعية" للعام 1948، ولا "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، مسألة تجويع المدنيين بشكل صريح. لكن صياغة "اتفاقيات جنيف" تلقي ضوءًا أوضح على سبب تهميش جرائم التجويع بعد الحرب العالمية الثانية.
حقوق المحاصِر وأخطاؤه
عندما اجتمع ممثلو الدول في جنيف في منتصف العام 1949 لصياغة اتفاقيات تهدف إلى حماية ضحايا الحروب، سعت العديد من الدول إلى ترسيخ ضمانات إنسانية أقوى في النزاعات المسلحة. وعلى وجه الخصوص، دفعت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر"، إلى جانب العديد من ممثلي الدول التي كانت خاضعة للاحتلال خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، نحو وضع ضمانات لعبور المساعدات الإنسانية ومنع تدمير الأشياء الأساسية لبقاء المدنيين على قيد الحياة.
لكنّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كانتا مصرتين على الحفاظ على قدرتهما على فرض الحصارات، ورفضتا أي بنود قد تحدّ من قوتهما البحرية أو الجوية. وبالنظر إلى احتمال وقوع حصارات مستقبلية ضد خصوم شيوعيين أو مناهضين للاستعمار، نجحت الدولتان في إضعاف هذه المقترحات. وساعد هذا التوافق الناتج في ترسيخ إجماع قانوني في حقبة الحرب الباردة بشأن حصارات التجويع. فبينما لم تحظر التكتيك بشكل صريح، أدانت "اتفاقيات جنيف" نهب الأراضي، وحمت عمال الإغاثة، واعتبرت -ولو اسمياً- مبدأ وصول المساعدات الإنسانية حقاً مشروعاً، غير أن حماية هذا الوصول أُضعفت كثيراً بسبب الشروط التقييدية وصلاحيات التفتيش الواسعة، مما أتاح للمحاصِرين عرقلة وصول المساعدات بناءً على مجرد الشك بأنها قد تفيد العدو.
بعد العام 1949، لم يتمكن المحاصِرون من استعادة الحق القانوني في تجويع المدنيين بشكل متعمّد كأداة مشروعة في الحروب. ومع ذلك، استطاعوا خلق استثناءات قانونية واسعة، حيث أُتيح اعتبار موت المدنيين غير المتعمد مقبولاً قانونياً ضمن ظروف محددة. وعلى سبيل المثال، استخدمت الولايات المتحدة أساليب التجويع على نطاق واسع في حرب فيتنام، من خلال تدمير المحاصيل بشكل منهجي في المناطق التي يُشتبه في إيوائها مقاتلين شيوعيين. وفي ظل هذا الإطار القانوني الناشئ، أمكن للحكومات المتحاربة أن تزعم أن تجويع المقاتلين الأعداء هو عمل قانوني، وبذلك يُعتبر موت المدنيين نتيجة مأساوية -لكنها شبه حتمية- لأسلوب مشروع من أساليب الحرب الحديثة ضد أعداء شموليين.
كما هو معروف، نادرًا ما تكون المجاعات في زمن الحرب متعمدة من بدايتها حتى نهايتها؛ في أغلب الأحيان، تكون المجاعة نتيجة لسياسات حصار تُعلي من شأن الاحتياجات العسكرية على حساب حياة المدنيين. ولكن، بحلول سبعينيات القرن الماضي، قادت موجة من الدول المستقلة حديثاً -خصوصاً في إفريقيا والشرق الأوسط ومناطق أخرى- جهداً جديداً لتجريم تكتيكات التجويع، مدفوعة بتجاربها المباشرة مع هذا النوع من الحروب التي شنتها القوى الاستعمارية السابقة. وخلال المفاوضات التي أدت إلى إضافة بروتوكولَين جديدين إلى "اتفاقيات جنيف" في العام 1977، دفعت هذه الدول في اتجاه وضع قواعد صارمة ضد القصف العشوائي وتدمير المحاصيل والتجويع.
مع ذلك، لم تدعم كل دول ما بعد الاستعمار فرض حظر شامل على هذه التكتيكات. وعلى سبيل المثال، استغلت نيجيريا الثغرات القانونية في اتفاقيات العام 1949 عن عمد، وبشكل مدمر، خلال حرب نيجيريا-بيافرا في أواخر الستينيات، واختبرت الفوائد التكتيكية للتجويع في قمع التمردات الانفصالية. ونتيجة لذلك، كبحت البنية القانونية الدولية الجديدة استخدام التجويع في الحروب بين الدول وأثناء الاحتلالات، لكنها توقفت دون تجريمه بالكامل، خصوصاً عندما تستخدمه دول فقيرة ضد جماعات متمردة في الحروب الأهلية.
النتائج والأثر
ترتّبت على هذا الواقع عواقب وخيمة. ظلت الأقليات عديمة الجنسية أو المهمّشة -مثل البيافرا، والدرفوريين، والأكراد، والتيغراي- عُرضةً للحصار بقصد التجويع الذي مارسته حكومات معادية. وحتى بعد أن اعتُبر التجويع جريمة حرب وفق "نظام روما الأساسي"، لم يشمل هذا التصنيف سوى النزاعات المسلحة بين الدول. واستغرق الأمر حتى العام 2019 لتقوم دول، من بينها ألمانيا، بالاعتراف رسمياً بأن التجويع يُعدّ جريمة حتى في الحروب الأهلية. ومع ذلك، وحتى إقامة القضية ضد إسرائيل، لم يُحاكم أي طرف بارتكاب جريمة التجويع كجريمة قائمة بذاتها. وعلى الرغم من أن الجريمة مُقنّنة في القانون المُعاهَداتي، فإن اتهام طرف بها ظل يُعتبر شأنًا بالغ الحساسية سياسيًا، ومتشابكًا بشدة مع استراتيجيات الدول القوية. وبذلك، استمر استخدام التجويع كسلاح عسكري -ليس لأنه رخيص الكلفة، وبسيط، وفعّال بوحشية فحسب، وإنما لأن من الصعب المعاقبة عليه أيضًا.
تحاول أوامر التوقيف الصادرة عن "المحكمة الجنائية الدولية" في حق قادة إسرائيل تحدي هذا الإفلات الطويل من العقاب. لكن القضية تكشف أيضًا عن الصعوبات المستمرة في مقاضاة جرائم التجويع: إذ يتوجب على المدّعين إثبات أن القيادة الإسرائيلية حرمت، عن عمد وبعلم، السكان المدنيين في غزة من المواد الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة. وكما هو الحال في جرائم الإبادة الجماعية، يُعتبر إثبات النية أمرًا بالغ الصعوبة. في حال وقوع مجاعة جماعية خلال صراع مسلح، يستطيع القادة السياسيون أو العسكريون الإيحاء بأن الوفيات الناجمة ليست سوى نتيجة مؤسفة لحرب عصرية.
بالإضافة إلى ذلك، تجعل الطريقة التي تُفرَض بها الحصارات من الأصعب تثبيت الجريمة. في حملات القصف يكون المصدر واضحًا والنتائج فورية، وغالبًا مذهلة بصريًا. أما في حالة الحصارات، فإن آثارها التدميرية تتكشف بصورة غير مباشرة، وبمرور الوقت، وغالبًا بعيدًا عن الأنظار. وهي تكون نتيجة لروتين إداري -طلبات رُفضت، معابر أُغلقت، شحنات أُعيقت- تشرف عليه بيروقراطية ليس لها وجه يمكن تمييزه. وكما وصفت الأمر الفيلسوفة هانا آرندت من قبل، فإن أساليب التجويع هي من أعمال "القاتل المكتبي": منهجية، خفية، وغالبًا ما تُبرر بمسوغات بديلة، مثل الضرورات الأمنية أو منع تهريب الأسلحة. وهذا الطابع الخفي للعملية هو ما حمى حملات التجويع لفترة طويلة من الملاحقة القانونية.
ولنتأمل الحرب الأهلية السودانية الدائرة منذ عامين بين القوات المسلحة السودانية وميليشيا "قوات الدعم السريع"، التي أدّت إلى نقص كارثي في الغذاء لأعداد تفوق تلك التي في غزة. في منتصف العام 2024، خلصت الأمم المتحدة إلى أن 18 مليون سوداني يعانون من "جوع حاد"، من بينهم نحو 3.6 مليون طفل. وكما كتب أليكس دي وال في مجلة "فورين أفيرز"، فإن "هذا الوضع الكارثي كان نتيجة مباشرة لأعمال الطرفين في الحرب الأهلية السودانية المروّعة". وقد فتح المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" تحقيقًا بشأن جرائم الحرب في إقليم دارفور -وهو إقليم خاضع لاختصاص المحكمة منذ إحالته إليها من مجلس الأمن في العام 2005- حيث تحاصر "قوات الدعم السريع" مدينة الفاشر؛ عاصمة شمال دارفور. مع ذلك، وعلى الرغم من تزايد التقارير التي تربط الأزمة الإنسانية في البلاد بتكتيكات تجويع متعمَّدة، لم توجه المحكمة حتى الآن أي اتهامات علنية بالتجويع كجريمة حرب في السياق السوداني. (ولكن في نيسان/ أبريل، تناولت "محكمة العدل الدولية" هذه القضية في دعوى إبادة جماعية رفعتها الحكومة العسكرية السودانية ضد الإمارات العربية المتحدة، تتهم فيها الإمارات بدعم تكتيكات التجويع التي تتبعها قوات الدعم السريع).
باتخاذه حرب غزة كنقطة انطلاق لأول مقاضاة لجرائم التجويع، يبدو أن المدعي العام لـ"المحكمة الجنائية الدولية" اعتبر أن التصريحات العلنية الصريحة لقادة إسرائيل تُشكّل دليلاً غير معتاد على وجود نية جنائية، على الرغم من العقبات القضائية المختلفة. ففي 9 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بعد يومين من هجمات "حماس"، أعلن يوآف غالانت عن "حصار كامل" لغزة، آمرًا بقطع الكهرباء والطعام والوقود، وواصفًا سكان غزة بأنهم "حيوانات بشرية". وبالمثل، في الأسابيع الأولى من الحرب ثم مرة أخرى لاحقًا، رفض بنيامين نتنياهو علنًا السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وخلال السنة الأولى من الحرب، بدأت إسرائيل في السماح بدخول كميات محدودة من المساعدات إلى القطاع، في الغالب نتيجة للإدانات الدولية والضغط من إدارة بايدن. ولكن في الآونة الأخيرة، بدلاً من تخفيف لهجتها العلنية، ضاعفت القيادة الإسرائيلية من خطابها التصعيدي، معيدة فرض الحصار الكامل ومستأنفة حملة القصف. وفي آذار (مارس)، على سبيل المثال، انضم وزير الدفاع الجديد، يسرائيل كاتس، إلى وزراء آخرين في الحديث عن فتح "أبواب الجحيم" على الغزّيين. وقد حوّلت هذه التصريحات العلنية من قادة إسرائيل جريمة التجويع -التي لم تتم مقاضاتها سابقًا- إلى ما وصفه بعض خبراء القانون الدولي بـ"الثمرة الدانية للقطاف"، وجعلت من تهمة التجويع محورًا رئيسًا في أوامر التوقيف الصادرة عن "المحكمة الجنائية الدولية".
ومع ذلك، يطرح تركيز المدعي العام للمحكمة على خطاب المسؤولين الإسرائيليين أسئلة أعمق بشأن جدوى السعي إلى تحقيق العدالة في جرائم التجويع. هل كانت المحكمة لتصدر أوامر اعتقال لو أن نتنياهو وغالانت كانا أكثر حذرًا في تصريحاتهما العلنية؟ يشير البيان الصحفي الذي أعلن قرار المحكمة إلى أنه لو تجنبت القيادة الإسرائيلية التصريح صراحةً بفرض حصار تجويعي -بغض النظر عن النتائج الفعلية للتكتيك- لكانت التهم قد اقتصرت على "مسؤولية القيادة" عن الهجمات المباشرة على المدنيين وجرائم ضد الإنسانية. وهي بحد ذاتها تهم جسيمة، لكنها ربما لا تُلحق الضرر نفسه الذي تلحقه تهمة التجويع، لما تنطوي عليه من إيحاء بنية تدمير جماعة مدنية بشكل كلي أو جزئي.
نقطة تحول؟
على الرغم من العقبات السياسية الهائلة التي تواجه "المحكمة الجنائية الدولية" اليوم، قد لا تفضي القضية ضد إسرائيل إلى أي نتيجة. ومع ذلك، فإن تركيز المحكمة على جريمة التجويع قد يحمل آثارًا قانونية على صراعات حديثة وجارية أخرى. ففي منطقة البحر الأحمر ووسط أفريقيا، تستمر أطراف النزاع في استخدام الحصار والتجويع كسلاح من دون رادع فعلي. ووفقًا للسوابق التي أُرسيت في "اتفاقيات جنيف" للعام 1949، تواصل الدول التي تستخدم هذه الأساليب الادّعاء بأن المجاعات الناتجة عنها إما غير موجودة، أو أنها مجرد نتائج جانبية غير مقصودة لأعمال مشروعة ضد مقاتلين أعداء. وعلى الرغم من أن ذلك قد لا يغيّر من معاناة الفلسطينيين، فإن أوامر التوقيف بحق القادة الإسرائيليين تُعدّ نقطة تحول قانونية صغيرة -ولكنها مهمة- قد تسهم في توضيح -أو حتى خفض العتبة المطلوبة- لإثبات النية في ملاحقات قادمة، سواء أمام محاكم دولية أو وطنية. ويوحي توقيف الرئيس الفلبيني السابق، رودريغو دوتيرتي، مؤخرًا، في لاهاي، بأن مثل هذه الجهود ليست عديمة الجدوى بالضرورة.
يكتسي توقيت قرار "المحكمة الجنائية الدولية" بأهمية خاصة. إنه لا يتزامن مع تزايد القلق إزاء خطر المجاعة الجماعية في شمال غزة فحسب، بل يؤشر أيضًا على تحول طويل الأمد في المواقف العالمية تجاه استخدام التجويع كسلاح. صحيح أن هذه الاستراتيجية ما تزال مرتبطة بأولويات الدول الكبرى، حيث تستعد الصين لاحتمال فرض حصار خانق على تايوان، وما تزال وزارة الدفاع الأميركية تقبل الحصارات التجويعية كأساليب قانونية محتملة في الحروب ضد الأعداء. ولكن منذ أواخر التسعينيات، ظل محامون تقدميون ومنظمات غير حكومية وقوى ناشطة أخرى يضغطون على الدول والمحاكم من أجل تجريم أساليب التجويع، التي كشفت الصراعات الحديثة عن كلفتها المدنية غير المقبولة.
الآن، تشكل قضية "المحكمة الجنائية الدولية" ضد إسرائيل -بما تنطوي عليه من إشارة إلى أنه حتى الحلفاء الأقوياء للغرب يمكن محاسبتهم- اختباراً حقيقياً لهذه الأعراف العالمية المتغيّرة. في أواخر نيسان (أبريل)، أفادت صحيفة "الغارديان" بأن كريم خان، المدعي العام للمحكمة، تقدّم بطلبات لإصدار أوامر اعتقال إضافية بحق مسؤولين إسرائيليين، وهو ما يشير إلى أن القضية قد تتوسّع أكثر.
في وقت تسعى فيه القوى الأوروبية الكبرى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية سريعاً في عالم لم يعد فيه الاعتماد على المظلة الدفاعية الأميركية مضموناً، تجد هذه الحكومات نفسها أمام خيار مصيري: إما أن تُطبّق المبادئ الدولية التي لطالما ادّعت الدفاع عنها، أو أن تتخلّى عن ادعاءاتها بالقيادة الأخلاقية. وبالقدر نفسه من الأهمية، على دول الجنوب العالمي الكبرى -التي لطالما انتقدت، عن حق، المحاكم الدولية لاستهدافها بشكل حصري أطرافاً غير غربية أو خصوماً مباشرين للغرب- أن تتحمّل مسؤوليتها الآن. إذا كانت هذه الدول تطمح إلى استعادة دورها كمدافع عن القانون الدولي، فإن عليها أن تدعم جهود "المحكمة الجنائية الدولية" و"محكمة العدل الدولية"، لا بالقول فقط، وإنما بالفعل.
وإلا، فإن هاتين المؤسستين، والقواعد الدولية التي تسعيان إلى تطبيقها، ربما يلقى بها في غياهب النسيان واللاجدوى.
*بويد فان ديك Boyd van Dijk: زميل أكسفورد مارتن في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب "الاستعداد للحرب: صنع اتفاقيات جنيف".
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel, Gaza, and the Starvation Weapon
0 تعليق