هناك أسواق لا تبيع البضائع فقط، تبيع الحنين... تبيع العطر الذي لا يُقطّر في زجاجة، بل يسكن في الذاكرة.
وسوق مطرح واحد من تلك الأسواق النادرة التي كلما مشيت فيها، شعرت أن الزمن قد توقّف احترامًا لما بقي من ملامح الجمال. رائحة البهارات تفوح كأنها بخور الذاكرة، ولمعان المصوغات الفضية يُناديك من أزمنة بعيدة، خطواتك على بلاط السوق كأنها نقرات على باب التاريخ، تدعوه أن يفتح لك صفحة من ماضي عُمان الخالد.
إنه ليس مجرد سوق، إنه متحف مفتوح، تحفة معمارية تسكنها مطرح، وتحمل في جدرانها لهفة البحارة، وصوت الباعة، وثرثرة العابرين، وسيمفونية الحياة كما كانت تُعزف في أسواق العصور الوسطى.
كم يسرني كثيرًا وأنا أرى انبهار السياح الأجانب بهذا السوق، وهم يتوقفون أمام دكان صغير يحتفظ برائحة القرن التاسع عشر، أو يلتقطون صورًا لقناديل ما زالت تُضاء بروح الماضي، لكن تلك السعادة لا تلبث أن تنقلب إلى غصة في القلب، كلما رأيت ملامح هذا السوق تُسرق، تُطمس، وتُستبدل... لا على يد الزمن، بل بأيدينا نحن!
المحلات التي تبيع الملابس الجاهزة والكماليات المستوردة تغزو السوق من كل زاوية، وتطغى على محلات العطارين والفضة واللبان والبخور. باعة من جنسيات مختلفة، يعرضون سلعًا لا تمت للهوية العُمانية بصلة، حتى لكأنك تسير في ممرات سوق آسيوي عشوائي، لا في قلب مطرح التاريخ!.
أين تلك الزوايا التي كانت تحكي قصص الجدّات؟ أين الأبواب الخشبية التي عانقت أكفّ البحّارة والتجّار؟ أين روائح القهوة، وهمسات العطارين، وعبق اللبان؟ لقد بدأ السوق يفقد ملامحه... قطعةً قطعة، وروحًا روحًا.
إن مطالب تطوير السوق ليست ضربًا من الخيال أو المستحيل، بل نطمح بما تفرضه علينا واجباتنا تجاه تراثنا وهويتنا، نطمح بخطة متكاملة لتأهيل السوق، تعيده إلى ماضيه البهي، وتجعله وجهة تراثية عالمية تليق بميناء السلطان قابوس، وتُدهش السائح الذي يهبط من السفينة ليجد نفسه في رحلة عبر الزمن. نُطالب بأن يُعاد تصميم السوق بحيث تُشبه ممراته تلك التي في الحصون والقلاع القديمة. أن تُنظّم كل سكة في السوق لتعبر عن حرفة عُمانية أصيلة: العطارة، وصناعة الفضيات، والنسيج، والسعفيات، والخناجر، والنقوش، والحناء، والفخار... وأن يُمنع بيع كل ما هو مستورد دخيل، لا يحمل بصمة عمانية. بل أكثر من ذلك: يجب أن يُلزم أن يكون الباعة عمانيين بلباسهم العُماني التقليدي؛ ليعيش الزائر تجربة متكاملة، كأنّه دخل إلى موسوعة بصرية عن عُمان، لا مجرد سوق.
ومن الجانب العملي، لا بد من معالجة مسألة تصريف مياه الأمطار، فكل موسم مطير يُغرق السوق، وتنساب السيول من الشعاب المجاورة بلا تنظيم، فتُشوّه المشهد وتُربك الزوّار. وقد يكون الحل في إنشاء أنفاق أو مصارف ذكية تُوجّه المياه مباشرة إلى البحر، دون أن تمرّ بالسوق.
إن السوق هو نبض مطرح، ومطرح هي ذاكرة الوطن. وحين تُسرق الذاكرة... لا يبقى من الإنسان إلا اسمه!
سلطنة عُمان تملك كل مقومات السياحة التاريخية الأصيلة، لا تحتاج إلى مجمعات تجارية ضخمة، ولا إلى ملاهٍ صناعية، بل تحتاج إلى عين تُبصر الجمال الموجود، وعقل يُخطط، وقلب يُحب.
كما رأينا في حارة العقر بنزوى، كيف يمكن لفكرة بسيطة أن تُحوّل الحيّ العادي إلى تحفة سياحية يقصدها الجميع، فإن سوق مطرح جدير بخطة طموحة تُعيد له الحياة.
فليكن سوق مطرح ليس فقط مجرد سوق، بل قصيدة تُتلى، وعنوانًا لعُمان كما نُحب أن يراها العالم.
0 تعليق