الإنسان رهين مجموعة من العوامل المادية والمعنوية، فهي التي توجهه نحو اليمين ونحو الشمال؛ نحو الرضى ونحو الغضب؛ نحو الكرم ونحو البخل؛ نحو الشجاعة ونحو الجبن؛ نحو التضحية ونحو الانهزام؛ نحو التقدم ونحو التقهقر؛ نحو العلم ونحو الجهل؛ نحو التواضع ونحو التكبر؛ نحو السمو ونحو الوضاعة، والسؤال المحوري هنا: من أين تبدأ استقلالية الفرد حتى يتجاوز هذه الثنائية؛ فيكون أكثر قدرة على توجيه بوصلته للأهداف التي يريد تحقيقها؛ دون أية ضغوط ثانوية تؤثر على ذلك؟
في هذا السؤال؛ العائم؛ والذي يمكن أن يجاب عليه بإجابات متعددة، تبقى حالة محورية فيه، وهي المرتكز للانطلاقة نحو تحييد الإجابة عن التشعب، هذه الحالة هي الإنسانية باستحقاقاتها الكاملة، فإنسانية الإنسان هي التي تجله، وتميزه عن بقية الكائنات الحية في هذا الوجود، ولولا هذه الإنسانية لما استطاعت الكائنات الأخرى أن يكون لها موطئ قدم بين المجتمع الإنساني، حتى في وجود الصلف المعتاد من قبل بعض الحيوانات للفتك بالإنسان والقضاء عليه، ومع ذلك تجد هذه الحيوانات المساحة الآمنة للاطمئنان في المساحة الإنسانية حيث يتيح لها الإنسان هذه الفرصة، فالإنسانية هنا تشكل محور الإنسان كفعل ومعنى في هذا الوجود، ويقاس عليها كل تصرفاته وانفعالاته، وأخذه ورده؛ وإقدامه وتقهقره؛ وقس على ذلك مجموعة المتناقضات التي تعتريه في كل تصرفاته المقصود منها؛ وغير المقصود؛ والتي تأتي اتساقا مع طبيعته الإنسانية دون تكلف أو توجيه.
وهذه الاستقلالية التي يتم الحديث عنها في هذه المناقشة، وهي الموسومة بالإنسانية هي التي تجلي وتصقل كل تصرفات الفرد مع نفسه، ومع الآخرين من حوله، ومتى فقدت هذه البوصلة «الإنسانية» فقد الفرد ذاته، وأصبح رقما ثانويا لا قيمة له، وقد يصبح معول هدم خطير، أكثر منه عامل بناء لخيره، وللآخرين من حوله، وقد يصل الأمر إلى التحذير منه، ومن تصرفاته العوجاء، وبطشه وجبروته، التي لا تفرق بين حق وباطل، وبين صديق وعدو، ويكون أشد فتكا من الضواري التي تحتمي بإنسانية الإنسان في مواقف كثيرة، ذلك أن الضواري متى أشبعت غريزتها وارتوت، هدأت وأصبحت من مثيلاتها المدجنة التي تعيش ما بين جدران أربعة مشاركة الإنسان استقراره وطمأنينته.
وبقدر هذه القيمة الإنسانية التي تجل تصرفات الإنسان، يحتسب للإنسان قدره ومكانته بين بقية المخلوقات، وتقاس تصرفاته وسلوكياته من هذا المبدأ الإنساني، وبالتالي فأي تصرف شاذ عن المعنى الإنساني يفقد في المقابل القيمة الإنسانية لذات الفرد، وينزله منازل الكائنات غير العاقلة، وليس معنى ذلك أن يرفع عنه القلم، ويعذر فيما يقترف من موبقات، سواء تلك التي تنزله منازل البهيمية العجماء، أو تلك التي يخطط لها بعقل راشد ليؤذي بها غيره «ما سبق الإصرار والترصد» إطلاقا؛ إنما تستلزم محاسبته، ودفع أثمان ما يقترف، سواء ذلك وفق القانون الذي يؤمن بأهميته أفراد المجتمع، أو القانون الإلهي الذي سوف يجده عدالته في يوم غير يومه في الحياة.
فالقيمة الإنسانية تشعر الفرد بأهمية الدور الذي يقوم به في مجتمعه، وهو دور يذهب إلى الصلاح والرضى، ويضع الفرد في المكانة التي تجله وتقدره كفرد صالح يؤمن بأهمية كل ما حوله، ويرى أنه مسؤول عنه في تلك اللحظة التي يتعامل معه، ويعمل على المحافظة عليه، وعند إسقاط مجموعة الأوامر النواهي؛ وعلى أنها المهمة في تصويب تصرفات الفرد نحو كل ما حوله، فإن ذلك لن يزيد على إنسانية الإنسان الحقيقية، وبالتالي فإن لم يؤمن بها الفرد، فإنها تظل حبرا على ورق؛ ولن تجدي نفعا في تصويب سلوكيات الإنسان، حيث يتم تجاوزها والتلاعب بها، واختراقها بصورة متعمدة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عُماني
0 تعليق