
السبيل – خاص
مع دخول حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها التاسع عشر؛ لم تعد تداعياتها مقتصرة على غزة وحدها، بل بدأت تظهر بوضوح داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وبصورة لم تعد قابلة للإنكار. فبعيداً عن الخطابات السياسية و”الانتصارات” الإعلامية، يكشف الواقع عن مجتمع ينهار من الداخل، بعد أن تَسببت الحرب في خلق جيل جديد من المحطمين نفسياً، والمرضى ذهنياً، والمعزولين اجتماعياً.
يعاني أكثر من 100 ألف إسرائيلي من اضطرابات نفسية حادة مرتبطة بالحرب، وفق معطيات جديدة نشرها أورين هيلمان، رئيس جمعية “كيشر” لدمج ذوي الإعاقة، في مقال له بصحيفة يديعوت أحرونوت.
يقول هيلمان: “يسير أكثر من 100 ألف إسرائيلي لا خدوش على أجسادهم، لكن أرواحهم مجروحة… لا ينامون، ويبكون نهاراً، ولم يتمكنوا من العودة لحياتهم الطبيعية منذ عام ونصف”.
وتضم هذه الفئة جنوداً من الاحتياط، ناجين من هجوم 7 أكتوبر، ومستوطنين فقدوا عائلاتهم، وناجين من مجازر متبادلة في الميدان. بعضهم يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والبعض الآخر يعاني من إعاقات ذهنية غير مرئية، لكنهم جميعاً يشاركون في شيء واحد: عدم الاعتراف المجتمعي بمأساتهم.
ووفقاً لبيانات التأمين الوطني الإسرائيلي التي أوردها هيلمان، فإن:
– 67 ألف حالة جديدة ظهرت بعد السابع من أكتوبر بسبب الحرب.
– 13 ألف جريح في صفوف جيش الاحتلال حتى الآن.
– 12% من جنود الاحتياط يعانون من أعراض ما بعد الصدمة.
– العدد مرشّح للارتفاع ليصل إلى 20 ألف جندي جريح.
لكن الصدمة لا تتوقف عند الأرقام، بل تتسع إلى السلوك الاجتماعي تجاه المصابين، حيث يضيف هيلمان: “المجتمع الإسرائيلي يعتقد أحياناً أنهم مختلون عقلياً، مرضى نفسياً، غير أكفاء… بل إن هناك وزراء ومذيعين يسخرون منهم ويستبعدونهم”.
ولا يقف التمييز عند حدود الكلام. فبحسب ما كشفه المقال، تمنع القوانين الإسرائيلية بعض المصابين باضطرابات الحرب من العمل في رياض الأطفال، باعتبارهم “خطراً”. كما أن:
– 50% من ذوي الإعاقات النفسية عاطلون عن العمل.
– 61% من الإسرائيليين لن يوافقوا على تأجير شقة لشخص مصاب بإعاقة ذهنية.
– 48% يرفضون العيش بجوار شخص مصاب بالتوحد أو بإعاقة عقلية.
ولا يعكس هذا الانكشاف النفسي داخل الكيان فشلاً في الرعاية الصحية وحسب، بل يشير أيضاً إلى أزمة هوية أعمق. إذ بينما تواصل الآلة العسكرية عدوانها على غزة، يظهر على الطرف الآخر مجتمع يعيش حالة من الصدمة الجماعية غير المعترف بها رسمياً، ويخشى الاعتراف بضعفه أمام آلة حرب كانت تُسوَّق طيلة عقود كـ”الردع الحاسم”.
والصدمة النفسية الجماعية التي يعاني منها مجتمع الكيان ليست فقط نتيجة الفقد، بل أيضاً نتيجة الخذلان من الدولة. فمعظم المصابين لا يتلقون الدعم الكافي، ولا يجدون في مؤسسات الدولة سنداً حقيقياً، بل يواجهون وصمة العار والتمييز.
إن ما تكشفه هذه البيانات أن الاحتلال لا يدمّر غزة فقط، بل يدمر الداخل الإسرائيلي أيضاً. وإن حسابات الحرب ليست فقط بعدد الطائرات والغارات، بل بعدد القلوب المحطمة، والعقول المكسورة، والأجيال التي فقدت ثقتها في معنى “الأمان”.
قد تكون الحرب بالنسبة لصناع القرار مجرد خيار استراتيجي أو “ضرورة أمنية”، لكنها بالنسبة لمن خاضوها وعادوا منها، جرح مفتوح بلا نهاية.
ومع تجاهل الاحتلال ومجتمعه لهم؛ فإن هذه الفئة قد تتحول من ضحايا إلى قنبلة اجتماعية صامتة في قلب الكيان.
0 تعليق