من سواقي فلج الحيلي والأوسط، إلى أعالي السماء المتاخمة لرؤوس نخيل الفرض الثابتة كمسامير لهذه الأرض الطيبة، يأخذنا أحمد الرمضاني فـي رحلة أود أن أقول إنها أسطورية؛ ولكنها فـي حقيقتها ملحمية عشناها فـي طفولتنا وعاشها آباؤنا وبعض أجدادنا. فـي باكورة أعماله الأدبية، يبدو أن أحمد يجترح نوعا جديدا من الكتابة المفتوحة، فلا يمكن تصنيف كتابه على أنه ديوان شعري، ولا أن بعض القصائد التي فـيه من القصائد العمودية أو النثرية فحسب، ولا أنها ذكريات منسوجة فـي قطعة نثرية عالية الخصوبة بالمشاعر الشفـيفة والعاطفة الوقادة لشاعر معروف، بل إنه يجمع ذلك كله فـي كتاب لم تتعد صفحاته أربعا وستين صفحة.
التغييرات التي طرأت على حياتنا فـي الخمسين سنة الماضية -ولا تزال- تشعر المرء بالربكة والاضطراب. فما يبدو أنه تغيير لطيف يدخل برفق إلى حياتنا، ليس سوى تغيير فـي الصفائح المؤسسة التي تعتمد عليها حياتنا وتستند إليها؛ فدخول الآلة إلى حياة الإنسان وأتمتة بعض الأعمال والأنشطة أصابته بجزع فقدان المعنى واهتزاز الواقع الراسخ فـي ذهنيته ومخيلته المتراكمة عبر سنوات، وهو ما يدفعه إلى التشبث بالطبيعة باعتبارها المنقذ الثابت فـي عالم متغير، المنقذ الذي رافق الإنسان فـي أطواره المتغيرة عبر الأحقاب المتتالية دون أن تتركه أو تتخلى عنه أو يصيبها التغيير الذي أصاب الحيوانات حتى! وهو ما تؤكده أبحاث العلماء ومراقبي حياة الحيوان.
ارتبط الشعراء بالطبيعة منذ الأزل، فالطائر المحلق فـي الفضاء الرحب لا يفتأ يذكره بالحرية اللامشروطة. والشجرة التي تخترق الآفاق تذكره بالتسامي والتعالي على الجراح والآلام، والوردة برائحتها الزكية ونفح طيبها الأخّاذ لا يكف عن تذكيره بالأثر الذي يود كل امرئ أن يتركه فـي نفوس عارفـيه ومحبيه. لكن الشاعر لا يتقمص الطبيعة وحدها، بل إنه يعيد خلقها ويبتدع لها ومنها صورا ومعاني جديدة كما لو أنها خلق جديد حقا ولم يُسبق إليه. حتى ليكاد المرء يقف مشدوها فاغرا فاه إزاء تلك الصورة الشعرية والتركيبة البيانية فـي آن؛ وهذا ما أجاده ويجيده أحمد فـي عمله الأدبي هذا. فاليمامة التي رافقت المعري فـي أشعاره، ونُصيب فـي بكائه
لَقَد هَتَفتَ فـي جُنحِ لَيل حَمامَة
عَلى فَنن تدعو وَإِنّي لَنائِم
كَذَبتُ وَبيت اللَهِ لَو كنت عاشِقا
لما سَبَقتَني بِالبُكاء الحَمائِم
لم تنس الوقوف على باب الرمضاني أو بجانب شرفته أو فـي مُرتفِعٍ يُطلّ على بيته، «.. يمامةٌ على سلك الكهرباء هدلت عن حنين وشجن، وبخفة خاطفة بجناحيها الرماديين مسحت الهواء..». مُذكِّرةً إياه بما مضى وامحى، أو محذرة متنبئة بما سيأتي ويجيء من مفارقات السعادة الخطرة، واصطياد الأفراح العائمة فـي المدى. هكذا يجد القارئ ذاته فـي نصوص أحمد، فهي وإن كانت مصطبغة بصبغتها السرورية السمائلية الوفـيرة الاخضرار، إلا أنها تحمل هموم المرء فـي العالم المتغير المضطرب بالتغييرات الهائلة السريعة التي لا يستطيع المرء التكيف معها بذات سرعة تطورها، كمن يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من تشيرنوبل بعد انفجار المفاعل النووي، فلا يفكر فـيما يأخذه ويحمله من براءة طفولته وحنين ذكرياته؛ إنما يجمع ما استطاع جمعه بسرعة المنقذ الداخل إلى موقع الكارثة.
هناك نوع من الكتب يجعلك أسيرا لها مخلصا لقراءتها والعودة إليها مرة تلو أخرى، وأحسَبُ أنني فرغت من قراءة جزء من روح المؤلف فور فراغي من قراءة عمله. فلا أجد الكلمات التي تعينني على الإفصاح عما أشعر به، بل كل ما أعرفه أنني قرأت شيئا أحبه، شيئا «يشبهني» كما يحب صديقي أن يقول، شيئا من تلك الأشياء التي أعلم يقينا وأنا أطوي الصفحة الأخيرة منه، وأودّع الكلمة الأخيرة من نسجه؛ أنني سأعود إليه حتما. سأعود إليه كما أعود إلى الماء، أوليس الماء جديدا فـي كل رشفة؟ تغمرني البهجة إذ أتاح لنا الرمضاني أن نقرأ بضعة من روحه، فقد جعلني عمل سيد اليمام أعود إلى الكتابة الشعرية نوعا ما جرّاء قراءتي «عناقيد» نجومه وأحلام الطرقات والأزقة السرورية الناضحة بالاخضرار والماء وضحكات المارة والقاطنين وأرواح الراحلين الحالَّةِ فـي المكان والأشجار.
0 تعليق