في النصف الثاني من عقد الثمانينيات أهدتْ آمنة بنت حميد المياسي لابنها البكر - الذي دخل للتوّ سنّ المراهقة - النصيحة الذهبية التالية: «لا تجرح أحدًا مهما كنتَ غاضبا. وإن كان لا بد من جرح أحد، فاختر جرحه بسكين، لكن لا تجرحه بكلمة؛ جرح السكين يبرأ، وليس لجرح الكلمات برء». ظلّت تلك النصيحة السِراج الذي يستهدي به ذلك المراهق في ليل حياته، وكلما استفزَّه أحد وقرر مجابهته بالكلام تذكّر نصيحة الأم فسكت. وسنةً إثر سنة عرف الولد قيمة الكلمة، وأنها «قادرة أيضا على انتشال إنسان من الرماد، وقادرة على لمس السماء وصنع المعجزات»، فآمن بها وأصبح كاتبًا، نعرفه اليوم باسم عبد العزيز الفارسي.
ظل الولد يؤمن بأهمية الكلمة فأولاها عنايته، إلى درجة أنه حين صُدِم - وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة بعد - بوفاة جدِّه الذي يحب، بالسرطان، رفض البكاء عليه، واستعاض عن ذلك بالكلمة المكتوبة التي كانت أول ما يُنشَر له من كتابات في الصحافة العُمانية: «سألوني يا جدّي لِمَ لَمْ أبكِ عليك، ظنًّا منهم بأنني لا أشتاق. أتذكّرك وأنت تعلمني صفاتك، تمامًا كقولك بأن البكاء ليس للرجال». ولأن جينات الجد تسري في الحفيد، بما في ذلك جينات التفاني والإصرار على بلوغ الهدف مهما كلف الأمر من تضحيات؛ فقد قرر الولد أن يهب حياته القادمة لمحاربة المرض العضال الذي خطف منه أَحبَّ الناس إليه وهو لم يبلغ الخمسين بعد، وما هي إلا سنوات قليلة حتى أصبح الفارسي واحدًا من أهم الأطباء المختصين في السرطان، ليبدأ رحلة مهمة صنعت معنى حياته؛ ألا وهي رحلة تخفيف آلام مرضاه، بما تعلّمه عن هذا المرض في أهم جامعات العالم من جهة، وبما تعلمه من أمه آمنة عن أهمية الكلمة الطيبة من جهة أخرى.
لم يكن أولاد أمي آمنة قليلين؛ فقد رزقها الله أيضا بزكي ويحيى ونعيم وعصام وعناد وماجد ومهند ومصعب، وعدد من الفتيات، لكن الابن البكر حالة خاصة، فهو بداية الفرح، والمذاق الأول للأمومة، فكيف إذا جاء مختلفًا؛ يجمع بين الذكاء الاجتماعي، والنبوغ العلمي، والحساسية الإنسانية المرهفة؟! هنا تتضاعف خصوصية العلاقة بين الأم والابن؛ بحيث يصبح مصدر ثقتها وعكازها الذي تتكئ عليه في المُلِمّات، وتصير هي قرة عينه في الحياة، وبوصلته في الكتابة. ما مِن تصوير مدهش لأمٍّ في روايات عبد العزيز الفارسي أو قصصه، إلا ويكاد يهتف: «أمي آمنة». لطالما توقفتُ - على سبيل المثال - مع وصف عايدة لأمها في «تبكي الأرض يضحك زحل»، وتساءلتُ: من أين لعبد العزيز هذه الخبرة بغضب الأمهات وقلقهن؟ «حين تغضب أمي، أو تقلق؛ فإن مشيتها تتغيّر تمامًا. تصبح خطواتها أقصر، وأسرع، وضغطها على الأرض أقل بكثير من الأوضاع العادية. كثيرا ما أعرف أنها غاضبة قبل رؤية وجهها أو محادثتها». وفي موقف آخر من الرواية نفسها، يحدث بين خالد بخيت وأمه (ولا أظنني أذيع سرا هنا إن قلت: إن خالدا هو أكثر شخصيات الرواية شبهًا بمؤلفها)، يلاحظ الولد بشاشة أمه وإضاءة وجهها الممتلئ وهي ترتب الصحون لتذهب بها إلى المطبخ، فيباغتها بسؤال: «ما الذي تتذكرينه الآن؟». تندهش الأم فتجيب عن سؤاله بسؤال آخر: «كيف عرفتَ أنني أتذكر شيئًا ما؟» فيجيب بكل بساطة: «وجهك أخبرني بذلك. هذا الفرح لا يملأ وجهك إلا إذا أخذتك الذكرى إلى البعيد. لم أر شخصًا مثلك يستطيع صنع السعادة بمجرّد استحضار ذكرى».
ظلت الأم تحضر بهذا الشكل أو ذاك في قصص الكاتب، وفي مخيلة الطبيب الذي أدرك منذ وقت مبكر أن الكتابة والسرطان كليهما «تحدٍّ متجدد»، وأن كليهما «يمنحنا الفرصة للنظر خلفنا بتجرد، بلا ندم على ما مضى، بابتسامة واثقة أن ثمن الصعود الباهظ لا يمكن دفعه دون تضحيات، وتصالح مع المعنى الأعمق لوجودنا الذي كان وسيكون». لكنّ القدّر سيضع الطبيب - الذي اعتاد تخفيف معاناة المرضى اعتياد شُربه للماء - في اختبارٍ صعب؛ أمي آمنة هي المصابة بالسرطان هذه المرة! هنا يستنفر عبد العزيز كل ما أتاه الله من خبرة طويلة في محاربة هذا المرض لوضع خطة علاجية للأم، واختيار بروتوكول العلاج المناسب، هذا طبعا بإشراك زملائه من الأطباء المتخصصين القادرين على تقديم رؤية أكثر حيادًا؛ فهو يعي تمامًا أنه عليه أن يكون في الآن ذاته الطبيب المُدرِك لمتطلبات مهنته، والابن الحنون الذي يمنح أمه الطمأنينة قبل العلاج.
في واحد من نصوصه الجميلة يسرد عبد العزيز الفارسي عن أمه أنها تقول له دائما حين ينسى شيئا: «نساك الموت يا ولدي». ويعلق على عبارتها بالقول: «ذاكرة الموت من فولاذ، الموت لا ينسى أحدًا أو شيئًا يا أمي. حتى النسيان لن ينساه الموت». وبالفعل؛ لم ينس الموتُ عبدَ العزيز؛ فخطفه من أحبابه في 10 أبريل 2022، وكان على الأم أن تضيف إلى ألم المرض ألمَ الفقد، وأي فقد؟! إنه فلذة الكبد، وجوهرة الحياة. لولا الإيمان بالله وصلابة الأمهات التي ورثتها من أمها لما استطاعت أمي آمنة العيش ثلاث سنوات كاملة بعد رحيل حبيبها، والحق أن أولادها وزملاء ابنها وتلاميذه من الأطباء واصلوا الاعتناء بها، وأشعروها طوال الوقت أن عبد العزيز لم يمت، وظلت هي مقاوِمة للمرض والحزن بكل ما استطاعت.
صباح الأربعاء الماضي (14 مايو 2025) تذكر الموت أنه لا ينسى، فتوجه إلى أمي آمنة وحملها بهدوء إلى ابنها الحبيب، مودِّعة هذه الفانية؛ حيث لا سعادة ولا راحة إلا في الجنة، كما كانت تقول.
تغمدهما الله برحمته الواسعة.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
0 تعليق