زهراء حبيب
حفل تدشين الكتاب «وجبة ثقافية» وليس منصّة بيع
الكتاب حقق أصداءً جميلة يقابلها «صمت رهيب»
بين هندسة الطيران وهندسة الكلمة، نسج الكاتب البحريني عيسى هجرس تجربة أدبية فريدة تُتوّج بـ3 عقود من التأمل والكتابة في النسخة الثانية كتاب «السرايات»، فهو ليس كتاباً تقليدياً ولا تصنيفاً أدبياً معتاداً، بل هو كوكتيل الشذرات» القصاصات» التي تُعبّر عن الحياة بلغة «السهل الممتنع».
ففي زمن يزدحم فيه العالم بالنصوص الطويلة، والكتابة الانفعالية، يقدّم الكاتب البحريني عيسى هجرس تجربة فريدة، تقوم على مجموعة من الشذرات الفكرية والوجدانية التي كتبت على مدى أكثر من ثلاثة عقود بدأت في 1995، باختزال لغوي، وحس شعري، وتأمل إنساني عميق.
وأكد هجرس لـ«الوطن»، أن «السرايات» ليس كتاباً يُقرأ من الغلاف إلى الغلاف، بل هو أقرب إلى نزهة تأملية داخل حديقة غير مرتبة، تتنقل فيها من الحب إلى الوطن، ومن الحكمة إلى الهزل، ومن السياسة إلى الفقد، دون خريطة، وكل شخص يقرأه بطريقته الخاصة.
وتطرّق هجرس إلى كيفية ولادة الفكرة، ومعنى العنوان، وفلسفة الاختزال في الكتابة، إلى جانب مشهد الثقافة في البحرين، ودور المراكز الثقافية، وصدى الكتاب بين الأصدقاء والجمهور، بالإضافة إلى مشاريعه القادمة، كما يتحدث عن تأثير عمله في هندسة الطيران على علاقته بالكلمة.
وفيما يأتي اللقاء:
متى بدأت فكرة «السرايات» تتشكل في ذهنك؟ وهل كنت تخطط دائماً لإصدار كتاب؟
- في الحقيقة، لم تكن الفكرة يوماً «مشروع تألق كتاب» بالمعنى المتعارف عليه. أنا لم أجلس لأخطط لإصدار، ولا وضعت جدولاً زمنياً، بل هي تجربة حياة، وما حدث أنني كنت أكتب طوال الوقت، أو دعيني أقول «أسجل شعوري» وأنا من الأشخاص المحب للتأمل في الأمثال الشعبية والاختزال والتكثيف في المثل» مثل «جنت على نفسها براقش»، وبدأت الفكرة من قبل 1995، كأنني أختصر الموقف أو التجربة أو الانفعال في جملة واحدة، أكتبها على دفتر، كقصاصات في أوراق عابرة، كنت أفعل ذلك بدافع ذاتي، وكأنني أتنفس بالكلمة.
ومع مرور الوقت، اكتشفت أن لديّ كماً كبيراً من النصوص القصيرة، في بداية عام 2000 بدأت أشعر أن هذا التراكم يستحق أن يُجمع، لكنني لم أتعجل، ظللت أعود وأراجع وأفلتر «الشذرات» وكان حديقة متنوعة، لذلك أعجبت بأن تكون المواضيع متفاوتة، لذلك، أقول دائماً»: «السرايات» لم يُكتب، بل نضج عبر العمر.
«السرايات» عنوان شعبي لافت، كيف وقع عليه اختيارك؟
- الكلمة خرجت من حديث عفوي مع أحد الأصدقاء في المحرق، كنت أشرح له طبيعة النصوص، فقلت له: «هي شذرات تأتي مثل نسمة مفاجئة»، وكان وقت عاصف وهو بعفوية قال « السرايات» وأعجبتني الكلمة فوراً فهي موجودة، لكن لم تستخدم لهذا الغرض، وهناك كلمة شعبية وهي تشابه «العصف الذهني» الذي يمر به الإنسان في بعض الأوقات.
وفي لهجتنا تعني الرياح الخفيفة التي تسبق العاصفة، أو الهبّات المتفرقة التي لا تستقر، وهي توصيف دقيق لطبيعة النصوص: خواطر قصيرة، تداهمك فجأة، وتختفي، أردت عنواناً بحرينياً، فيه طابع شعبي، وألا يكون مستهلكاً، وكان «السرايات» هو الأنسب.
ومن تلك العبارات.. لم أجد في الأيام زمناً، ولا في المسافات سكناً، وكل مقام لا يساوي نغمة إذا ضاعت معزوفة الوطن.
فخصوبة الحياة، وفحولة الزمن، أنجبت لنا طفلاً رائعاً اسمه وطن. كما أن بعض البشر يبتلعهم النسيان قبل أن تتذوقهم الذاكرة، وغيرها من التكثيف في العبارات.
أسلوبك في الكتابة قائم على الشذرة والاختزال، لماذا اخترت هذا الشكل دون أن تتوسع في المقال أو القصيدة؟
- أنا أحب التكثيف، أحب الجملة التي تحمل أكثر مما تقول، أكتب ما أحب أن أقرأ، ولطالما آمنت أن أصعب ما في الكتابة هو السهولة الممتنعة، وأن تقول الكثير بأقل قدر من الكلمات، وهذا الأسلوب يتطلب جهداً مضاعفاً، لأنه يتعامل مع اللغة بحذر وشغف.
كتبت في المقدمة عبارة أراها تلخص فلسفتي: «كيف تجلب عمق البحر في قطرة ماء؟»، هذا هو التحدي وفي «السرايات»، حاولت أن أفعل ذلك في كل نص.
لماذا لم تقسم الكتاب إلى محاور؟ خصوصاً أن القارئ يتنقل فيه من الحب إلى السياسة، إلى الفقد، إلى السخرية بشكل عشوائي؟.
- هذا هو مقصدي تماماً، فالحياة لا تسير وفق فهرس محدد، وأردت أن يكون الكتاب أشبه بحديقة عشوائية، تمشي فيها وتفاجئك الزهور من زوايا غير متوقعة، الرتابة قاتلة، والتنظيم الزائد يقتل الدهشة.
«السرايات» دعوة لقراءة غير تقليدية، تفتح أي صفحة وتبدأ، تجد فيها حباً أو خيبة أو حكمة أو دعابة.
عملت مهندس طيران، كيف انتقلت من هندسة الطائرات لتهندس الكلمة؟
- نعم، عملي في هندسة الطيران يتطلب دقة، منطقاً، ومهارة تحليلية، لكن ربما لأن عملي عقلي ومنضبط، فكانت الكتابة بالنسبة لي مساحة الانفلات الإبداعي، لم تكن ضدّ المهنة، بل مكملة لها.
الطيران منحني علاقة فريدة مع الزمن، والانتظار، والحركة، والتأمل من فوق، وهو نتاج تأملات مهندس يراقب العالم من الأعلى، ثم يكتب عنه من الداخل.
متى بدأت علاقتك بالكلمة؟ ومن ألهمك؟
- المدخل الحقيقي كان الأغنية. كنت مولعاً بكلمات الأغاني، خصوصاً كلمات فيروز، والرحابنة، وعبدالوهاب، ونزار قباني، كنت أستمع إلى الكلمات، وأعيدها، وأحاول تقليد موسيقاها، ثم بدأت أقرأ، وأتذوق اللغة.
تأثرت جداً بأسلوب نزار قباني الذي كان يملك في محصوله الشعري «500 كلمة» وصنع منها لغة تعد الرغيف اليومي، وباللغة البسيطة التي تُشبه الحياة، ثم جاء جبران، ومحمود درويش، وغيرهم، أحببت الأدب من باب تذوق الكلمة قبل فكرها.
لماذا استغرقت كتابة «السرايات» كل هذه السنوات؟
- لأنني لم أكن «أؤلف»، بل كنت أعيش، النصوص لم تكتب بشكل متتالٍ، بل على مراحل، هناك نصوص من التسعينات، وأخرى من 2020، بعضها ولد في موقف، وبعضها ظل حبيس الورق لسنوات.
الكتاب يشبه دفتر ملاحظاتي، لكنه مفلتر، مر على مراحل غربلة كثيرة، حتى اختصرته في أكثر من 200 شذرة، تمثل خلاصة عمر شعوري، لا زمني فقط.
كيف استقبل القراء الكتاب؟ وهل شعرت بالرضا عن التفاعل؟
- أقمنا حفل تدشين جميلاً ومميزاً، وحضر أكثر من 400 شخص والقاعة امتلأت عن بكرة أبيها، تلقيت إشادات كثيرة من قراء وأدباء وإعلاميين، وكان هناك حضور حقيقي من الناس، وهذا شيء أفتخر به.
لكن، في المقابل، واجهت صمتاً غريباً من بعض المثقفين، توقعت منهم اهتماماً، لكن البعض لم يتكلم، والبعض ربما لم يقرأ، أو لم يرد أن يعلق، وهذا الصمت مؤلم، لكنه تعليم أيضاً، تعلّمت ألا أراهن على التصفيق، وألا أحبط بالصمت.
كيف تقيّم واقع الثقافة والمراكز الثقافية في البحرين؟
- نحن بحاجة إلى إحياء الروح الاجتماعية داخل المراكز الثقافية، كثير منها اليوم يقدم فعاليات بلا جمهور، أو جمهور بلا تفاعل، غابت الديوانية، وغاب النقاش، وحل مكانها العرض المنفصل.
الثقافة ليست قاعة ومقعداً وميكروفوناً، هي تواصل، عفوية، نقاش بعد الفعالية، نحتاج إلى العودة لفكرة الملتقى الثقافي لا المحاضرة فقط، ومن بعدها تطفئ الأضواء وتغلق الأبواب، وقلة من هذه المراكز بدأت تعي هذه الجانب المفقود، وتعمل على إحيائه، فالمراكز هي بوتقة للمواهب واستعراض التجارب.
وحالياً السوشال ميديا والحياة الإلكترونية، كان لها دور سلبي في قلة الحضور والتعطش للمعرفة، فكل ما يحتاجه يجده في الشبكة العنكبوتية.
ماذا عن بيع الكتاب وقت التدشين؟ وهل فكرت في طباعته لأغراض تجارية؟
- في حفل التدشين، وزعت الكتاب مجاناً لا أريد أن أقول للناس: «تعالوا وادفعوا ثمنه». فالكتاب بالنسبة لي وجبة ثقافية، وليست سلعة.
نعم، في المكتبات يباع، وهذا أمر طبيعي. لكنّي لا أحبذ تحويل الكاتب إلى بائع، يروج لكتابه كما لو كان منتجاً استهلاكياً، الكلمة أثمن من أن تٌسعّر في لحظة لقاء، والبعض يعارضني الفكر ويعتقد بأن الكتاب له «احترامه» ومتى أصبح حقاً مشاعاً خفضت من قيمته.
هل هناك كتاب جديد تعمل عليه؟
- نعم، أعمل على مشروع جديد، يختلف في الشكل والمحتوى عن «السرايات»، هو تجميع لنصوص كتبتها خلال أكثر من 20 عاماً مقالات، تأملات، نصوص شعرية وجدانية، رثائيات، مقاطع شعرية، ونصوص اجتماعية عن الصداقة والمرأة والموسيقى.
الكتاب المقبل سيكون مرآة إنسانية، أكثر منه أدبياً، وسيجمع جوانب من شخصيتي وتجربتي وحواراتي مع الحياة.
0 تعليق