loading ad...
تقديم
يتناول هذا العرض الموجز للنكبة الفلسطينية سردًا دقيقًا وعميقًا لهذا الحدث المفصلي في التاريخ العربي المعاصر، من خلال توثيق متعدد الأبعاد يتجاوز الروايات التبسيطية أو العاطفية، ويعيد وضع الأحداث في سياقها الحقيقي بوصفها نتاجًا لمشروع استعماري إحلالي ممنهج. هذا المشروع لم يكن وليد الصدفة، بل كان مخططًا له بعناية، ومدعومًا بقوة السلاح وآلة الدعاية النفسية، ومرتكزًا على رؤية إقصائية تجسدت في المقولة الشهيرة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وتم تنفيذ هذا المشروع وفق استراتيجية قائمة على التطهير العرقي، والتهجير القسري، وبثّ الرعب في صفوف المدنيين الفلسطينيين، تمهيدًا لإفراغ الأرض من سكانها الأصليين وتأسيس الكيان الاستعماري-الاستيطاني على أنقاضهم.
يستحضر هذا التحليل عمل المفكر قسطنطين زريق، واضع مصطلح "النكبة"، باعتباره لحظة تأسيس لنقلة نوعية في الوعي العربي. لم ير زريق النكبة كهزيمة عسكرية أو كارثة إنسانية فحسب، بل فهمها بوصفها انكشافًا لخلل بنيوي عميق في المنظومة السياسية والثقافية العربية. كانت النكبة بالنسبة له أشبه بمرآة عكست التناقض الصارخ بين الخطاب القومي الرومانسي والواقع العملي المتردي، وكشفت عن تهافت النظام الرسمي العربي وهشاشة بنيته التنظيمية، وعجزه المطلق عن التصدي للتحديات الوجودية.
يتحدى هذا التحليل السردية الصهيونية التي لطالما روّجت لفكرة "الفرار الطوعي" للفلسطينيين، ويفكك بمنهجية رصينة الرواية الرسمية الإسرائيلية التي حاولت تبرير جرائم الطرد والتطهير العرقي. ويوضح أن المجازر، وحملات التخويف المحسوبة، والتدمير المتعمد للقرى، والضغط النفسي الجماعي، كانت كلها أدوات مركزية في تنفيذ الخطة الصهيونية لإفراغ فلسطين من شعبها. وبإعادة تسليط الضوء على شهادات بعض القيادات الإسرائيلية الناقدة، مثل ييغال سيسلينغ، يبرز هذا التوثيق التوتر الداخلي للصهيونية بين الواقعية البراغماتية وبين محاولة الحفاظ على صورة أخلاقية أمام العالم. لكنّ ما تلا ذلك من إنكار وتشويه متعمدين للحقيقة، يؤكد قدرة الرواية الصهيونية على احتلال المخيال الغربي وتطويعه لخدمة أهدافها لعقود طويلة.
في المقابل، يفضح التحليل هشاشة الأداء العربي، سواء على مستوى القيادة أو على مستوى التنسيق الميداني. وكما اتضح، جاءت النكبة لتفضح هشاشة "الوحدة العربية" المزعومة، وتكشف تفكك الجبهة السياسية والعسكرية، وعجز الأنظمة عن تبني مشروع حقيقي للدفاع عن فلسطين. وكانت هذه الهزيمة الجماعية هي التي دفعت زريق إلى توصيف النكبة بأنها ليست هزيمة جيوسياسية بقدر ما هي لحظة انكسار حضاري ووجودي، كشفت حدود الوعي العربي ومحدودية أدواته.
ثمة قيمة تضيفها إلى هذا العرض لمجريات النكبة حقيقة أنه لا يتعامل مع النكبة كحادثة من الماضي، وإنما كحدث مستمر في الزمن، تتنوع تجلياته المعاصرة في صور متعددة: من الحصار المفروض على غزة، إلى سياسات التهجير المستمرة في الضفة والقدس، إلى قوانين القومية العنصرية، إلى استمرار حرمان ملايين اللاجئين من حق العودة، مرورًا بخطاب الإنكار المنهجي الذي تمارسه سلطات الاحتلال على الصعيدين السياسي والإعلامي.
وبهذا الفهم، لا تكون النكبة موضوعًا للتذكر السنوي كحدث ناجز، وإنما هي واقع حيّ، يتكرر بأدوات جديدة وإنما بنفس الجوهر والدافع. وما لم يتم الاعتراف بها كجريمة كبرى بحق الإنسانية، فلن يكون هناك سبيل إلى تحقيق العدالة، ولا أفق لسلام مستدام أو مستقبل مشترك.
- علاء الدين أبو زينة
اضافة اعلان
د. محمد شتاتو* - (أوراسيا ريفيو) 23/12/2023
أصل ومعنى النكبة
تشير "النكبة"، التي ترادف في العربية معاني "الكارثة" أو "المصيبة"، إلى نزوح الفلسطينيين من مدنهم وقراهم إثر حرب العام 1948 بين إسرائيل، التي كانت قد أعلنت لتوّها "استقلالها" بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وتحالف من الدول العربية.
وكان الذي صاغ مفهوم النكبة لأول مرة هو المفكر السوري الشهير قسطنطين زريق، الذي وُلد في بيت أرثوذكسي يوناني في دمشق. ودخل المصطلح القاموس السياسي العربي قبل أن يشق طريقه ليخترق الوعي العالمي.
في صيف العام 1948، وكان عمره في ذلك الحين 39 عامًا، شعر زريق بأن هزيمة الجيوش العربية أمام قوات الدولة الإسرائيلية الوليدة نهائية لا رجعة فيها. وكتب مقالة قصيرة بعنوان "معنى النكبة". وقام بإنجاز هذا العمل خلال بضعة أسابيع فقط في فندق بمنطقة برمانا في بيروت، ولاقى نجاحًا فوريًا، حيث أُعيدت طباعته مرات عدة وتُرجم إلى الإنجليزية.
يؤكد زريق في بداية كتابه، الذي ما يزال مخطوطه محفوظًا في أرشيف الجامعة الأميركية في بيروت: "ليست هزيمة العرب في فلسطين نكسة عابرة أو أزمة بسيطة، بل نكبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي أسوأ ما أصاب العرب في تاريخهم الطويل المليء بالمآسي".
قدّرت "لجنة التوفيق" التابعة للأمم المتحدة لفلسطين في العام 1950 عدد اللاجئين بـ711.000 لاجئ (وقدرت عدد المسجلين لدى الأونروا ما بين 800.000 و900.000 لاجئ في تقرير العام 1961). بينما قدرت الحكومة الإسرائيلية بعد الحرب العدد بين 550.000 و600.000 لاجئ. وحسب المؤرخ إفرائيم كارش، الفرق بين عدد السكان العرب قبل وبعد الحرب، فاستنتج عددًا يتراوح بين 583.000 و609.000 لاجئ. ووفقًا لبعض المؤرخين العرب، مثل سلمان أبو ستة أو عبد العظيم حماد، فإن الأعداد تتراوح بين 800.000 تقريبًا و900.000 لاجئ.
وفقًا للمنظمات الإنسانية في ذلك الوقت، شمل هذا النزوح القسري نحو 900.000 فلسطيني. وفي ذلك الوقت، كان هذا الرقم يمثّل نحو 85 في المائة من إجمالي السكان. وقد لجأ بعضهم إلى قطاع غزة -الذي يتكون اليوم من 80 في المائة من السكان المنحدرين من عائلات لاجئة- وتوجه آخرون إلى الضفة الغربية، فيما توجه قسم ثالث إلى مناطق أبعد مثل الأردن ولبنان وسورية.
وبقي بعض الفلسطينيين في الأراضي التي أصبحت إسرائيل. ويُطلق عليهم اسم "فلسطينيو الداخل" أو "فلسطينيو 1948"، لكنهم يشكلون في الواقع أقلية، حيث تبلغ نسبتهم اليوم 20 في المائة من سكان إسرائيل.
تم إيواء نحو 40 في المائة من هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات، أنشأتها في البداية منظمات إنسانية، مثل "الصليب الأحمر الدولي" و"الكويكرز" في غزة. وأصبحت هذه المخيمات لاحقًا تحت إدارة "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى" (الأونروا).
وجد عدد كبير من هؤلاء اللاجئين -نحو 5.6 مليون- ملاذًا في الدول العربية المجاورة، وخاصة الأردن. واستقر آخرون في لبنان وسورية أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما استقر بعض أفراد الشتات الفلسطيني في أماكن أبعد، وخصوصًا في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية.
في العام 1952، مُنحت الغالبية العظمى من اللاجئين الوافدين إلى الأردن الجنسية الأردنية، مع حقوق المواطنة الكاملة مثل السكان المحليين. وكذلك كان الحال من حيث المعاملة في سورية، مع اختلاف وحيد: لم تُمنح لهم الجنسية السورية، وهو ما اعتبرته سورية أيضًا وسيلة للحفاظ على فكرة حق العودة الفلسطينية.
لكن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كانت أكثر تقييدًا. لم يتم منحهم الجنسية اللبنانية، وفُرضت عليهم قيود شديدة شملت منعهم من ممارسة عدد كبير من المهن -وما تزال هذه القيود قائمة حتى اليوم.
كانت صدمة الاقتلاع قوية، بشكل خاص لأن جزءًا كبيرًا من السكان الفلسطينيين كانوا ريفيين. وبالنسبة لأولئك الذين كانوا يعيشون من الأرض، كان من الصادم للغاية أن يجدوا أنفسهم يعيشون في مخيمات لاجئين -كما حدث مع نسبة كبيرة منهم- أو أن يصبحوا منفيين في أماكن أخرى في الدول المجاورة.
يتم إحياء ذكرى هذا الجرح العميق كل عام في الخامس عشر من أيار (مايو). وهو تاريخ يتزامن مع إعلان قيام دولة إسرائيل. ومع أن من المعروف تمامًا أن نصف عدد السكان الفلسطينيين تم تهجيرهم حتى قبل قيام الدولة الإسرائيلية وقبل دخول الجيوش العربية الحرب، فإن اختيار هذا التاريخ هو في النهاية اختيار رمزي لا يعكس بالضرورة التسلسل الزمني لحركة النزوح التي حدثت فعليًا بين العامين 1947 و1949.
النكبة في التاريخ
وفقًا لوثيقة استخباراتية سرّية صادرة عن "الهاغاناه" -الميليشيا اليهودية غير الشرعية الرئيسية قبل إنشاء "جيش الدفاع الإسرائيلي"، (تساهال)، في أواخر أيار (مايو) 1948- والتي عثر عليها المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس في أرشيف دولة إسرائيل، فإنه بحلول 15 أيار (مايو) 1948، كان ما يقرب من 400.000 فلسطيني قد غادروا الأراضي الفلسطينية مُسبقًا. ويشير جواسيس "الهاغاناه" إلى أن 73 في المائة من هؤلاء غادروا بسبب أعمال القوات اليهودية المسلحة والمجازر التي نفذتها في تلك الفترة. أما النسبة المتبقية، فهاجرت لأسباب تتعلق بالخوف من تفكك المجتمع الفلسطيني بنسبة 22 في المائة، وبسبب دعوات محلية إلى المغادرة أصدرها قادة الميليشيات الفلسطينية بنسبة 5 في المائة.
ندد المؤرخ الفلسطيني، وليد الخالدي، بهذا "المخطط السياسي-العسكري للطرد" منذ العام 1961، في دراسته الشهيرة المعنونة: "الخطة دال: الخطة الرئيسية لاحتلال فلسطين". وكما قال، كانت الاستراتيجية الإسرائيلية متعددة الأوجه، واتخذت أيضًا شكل "حرب نفسية".
يوضح الخالدي: "أحد المواضيع المفضلة في هذه الحرب النفسية كان نشر الإشاعات عن انتشار الأوبئة في صفوف العرب. في 18 شباط (فبراير)، أعلنت إذاعة ’الهاغاناه‘ عن تسجيل حالات من مرض الجدري في يافا بعد وصول سوريين وعراقيين إليها. وفي اليوم ذاته، كشفت الإذاعة أن عددًا من القتلى والجرحى من العرب الذين سقطوا في المعارك كانوا يعانون من ’أمراض معدية‘".
نجم الخوف الفلسطيني أيضًا عن المجازر، مثل مجزرة دير ياسين التي ارتكبتها منظمتا "الإرغون" و"ليحي" الصهيونيتان خلال ليلة التاسع إلى العاشر من نيسان (أبريل) 1948. وقتل في تلك المجزرة 250 من سكان القرية الصغيرة الواقعة قرب القدس، من النساء والأطفال والشيوخ. واستمر الزحف الإسرائيلي على الأراضي العربية، وسقطت مدينتان عربيتان قبل إعلان قيام الدولة اليهودية: حيفا في 22 نيسان (أبريل)، ويافا في 13 أيار (مايو). وقد استخدم الإسرائيليون استراتيجية تقوم على دفع السكان إلى الرحيل، كما أقر زعيم عصابة "الإرغون"، مناحيم بيغن، بنفسه في كتابه "التمرد" (1973).
وكتب بيغن: "استبدّ الذعر بالعرب في أرض إسرائيل (...) وبدأوا يفرّون في رعب (...). لقد ساعدتنا أسطورة دير ياسين على احتلال حيفا". ويعلّق وليد الخالدي على سقوط حيفا، فيقول: "في غضون أسبوع واحد، تم طرد 50.000 من السكان العرب".
تصاعد النزوح الفلسطيني بعد 14 أيار (مايو) 1948 وإعلان استقلال إسرائيل، الذي أدى إلى اندلاع أول حرب عربية-إسرائيلية. ومع إنشاء دولة إسرائيل وتعزيز القدرات العسكرية للجيش اليهودي الناشئ، تحوّلت هذه التكتيكات من مجرد تشجيع على المغادرة إلى استراتيجية طرد متعمدة. والنتيجة: 300.000 فلسطيني آخرين أُجبروا على الخروج إلى المنفى. وتشكل حادثة مدينتي اللد والرملة التوأمين في تموز (يوليو) 1948 المثال الأبرز على الأساليب الجديدة المتّبعة في التهجير القسري.
لم يمنع المستقبل السياسي لإسحاق رابين، الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للوزراء، صاحبه من الاعتراف باستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين في مذكراته. وعلى الرغم من أن هذه المقتطفات خضعت للرقابة في النسخة النهائية من مذكراته، فإنها نُشرت في صحيفة "نيويورك تايمز" في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1979.
قال رابين في وصفه لأحداث تموز (يوليو) 1948 بعد احتلال اللد (التي تُعرف اليوم بالاسم العبري "لود"):
"كنا نسير في الخارج بجانب بن غوريون. كرر ألون السؤال: ماذا يجب أن نفعل مع السكان؟ لوّح بن غوريون بيده بإشارة تعني: اطردوهم. تباحثنا أنا وألون، واتفقنا على أن طردهم كان ضروريًا. وضعناهم على الطريق المؤدي إلى بيت حورون سيرًا على الأقدام (...) لم يغادر سكان اللد طوعًا، لم يكن هناك خيار آخر سوى استخدام القوة وإطلاق طلقات تحذيرية لإجبارهم على المغادرة".
أمام حجم النزوح الفلسطيني، بدأ بعض الوزراء الإسرائيليين يُبدون قلقهم من أن تفقد الحركة الصهيونية مكانتها الأخلاقية. في وضع عسكري ما يزال هشًا، لم يكن بمقدور الدولة اليهودية الفتية أن تنفّر التعاطف الدولي.
في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948، قال وزير الزراعة في ذلك الحين، أهرون سيسلينغ، في اجتماع لمجلس الوزراء:
"لم أستطع النوم طوال الليل. ما يحدث يؤلم روحي، وروح عائلتي، وكلنا (...) الآن، بدأ اليهود يتصرفون مثل النازيين، وكياني بأكمله يهتز". وقد نقل هذه الأقوال عنه المؤرخ توم سيغيف في كتابه "1949: الإسرائيليون الأوائل".
أسطورة "الفرار الطوعي"
لطالما أنكرت السلطات الإسرائيلية والشعب الإسرائيلي عمليات طرد الفلسطينيين، وادّعت إسرائيل بأن الفلسطينيين غادروا لأنهم استجابوا لنداء الدول العربية بالانسحاب. لكنّ المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي وصف هذه الرواية الرسمية بأنها "دعاية".
كتب الخالدي في "النكبة (1947-1948)":
"ما تزال الأسطورة القائلة بأن النزوح الفلسطيني في العام 1948 جاء نتيجة أوامر من القادة العرب -وهي لازمة تتكرر في رواية إسرائيل الرسمية لتبرئة نفسها من مسؤولية مشكلة اللاجئين- تعيش طويلاً. ويستحضرها المدافعون عن إسرائيل فور محاولتهم تحميل الفلسطينيين المسؤولية عن مصيرهم".
ولكن، كيف يمكن تبرير المجازر التي وقعت في المدن العربية؟
يقول دومينيك فيدال في كتابه "كيف طردت إسرائيل الفلسطينيين؟" إن قادة "الوكالة اليهودية"، ولاحقًا الحكومة الإسرائيلية، "لم يخططوا لأي عمليات إجلاء"، وإن "المجازر النادرة التي يجب الإشارة إليها -بدءًا من دير ياسين في 9 نيسان (أبريل) 1948- نفذتها فقط وحدات متطرفة تابعة لـ’الإرغون‘ بقيادة مناحيم بيغن و’ليحي‘ بقيادة إسحاق شامير".
لكنّ هذا التفسير يرفضه المؤرخون الفلسطينيون، مثل وليد الخالدي، الذين يرون أن الرواية الصهيونية حرّفت الوقائع لتخدم أهدافها السياسية، وأن الوعي بهذه الوقائع بقي محصورًا لفترة طويلة في العالم العربي.
ويتابع الخالدي قائلاً:
"من المواضيع المحورية في الرواية الصهيونية للأحداث بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 وأيار (مايو) 1948 أن العرب تلقوا أوامر بمغادرة البلاد لإفساح المجال أمام الجيوش العربية النظامية. لكنني لم أجد أي دليل على هذه المزاعم في المصادر الصهيونية عن العام 1948، على الرغم من أنه كان من السهل العثور على مثل هذه الأوامر إن وُجدت. على سبيل المثال، في 23 نيسان (أبريل) 1948، قدّم راديو ’الهاغاناه‘ رواية تفصيلية لهروب العرب من حيفا ردًا على اتهامات المندوب السوري في الأمم المتحدة للصهاينة بارتكاب فظائع. ولم يذكر راديو ’الهاغاناه‘ أي أوامر من هذا النوع في روايته. وفي أوائل أيار (مايو) 1948، اتهم الملك عبد الله الصهاينة بطرد العرب من منازلهم، فردّ راديو ’الهاغاناه‘ في 4 أيار (مايو) نافيًا ذلك، ولكنه أيضًا لم يشر إلى أي أوامر عربية تدعو إلى المغادرة".
نسخة جديدة من التاريخ مع فتح الأرشيفات الإسرائيلية
لم يظهر التحدي للرواية الإسرائيلية للتاريخ إلا في أواخر السبعينيات، عندما شرع نوع جديد من التأريخ في الظهور، قاده جيل من المؤرخين الإسرائيليين الجدد، مثل بيني موريس، وتوم سيغيف، وآفي شلايم. بعد ثلاثين عامًا من قيام دولة إسرائيل، تمكن هؤلاء المؤرخون أخيرًا من الوصول إلى الأرشيفات، ووجدوا أنها لم تكن هناك أي دعوات إلى المغادرة من الدول العربية.
ثمة في إسرائيل خصوصية بشأن التاريخ: يبدأ فتح الأرشيفات بعد ثلاثين عامًا من وقوع الأحداث. وبعبارات أخرى، بدأ في العام 1978 فتح الأرشيفات الحكومية والعسكرية للحرب بين 1947 و1949. وسرعان ما انقضّ جيل كامل من المؤرخين على هذه النصوص وعرفوا أنه لم يكن هناك فرار جماعي للفلسطينييين أو مغادرة بتوجيه من أي جهة. كان هناك في الحقيقة طرد جماعي، وكانت الغالبية العظمى منه نتيجة لعمل القوات اليهودية خلال الحرب.
النكبة تتكرر
في مقال له نشر في العام 2011 بعنوان "النكبة المستمرة"، قدم الكاتب اللبناني إلياس خوري، "عضو منظمة التحرير الفلسطينية"، قراءة نقدية لعمل قسطنطين زريق التأسيسي.
"ما لم يفهمه (زريق) في ذلك الوقت هو أن النكبة ليست حدثًا بل عملية"، يكشف الروائي، الذي يركز في عمله الأخير "أطفال الغيتو: اسمي آدم" (أكت سود، 2018) على العرب الإسرائيليين، وهم أحفاد الفلسطينيين الذين لم يفروا في العام 1948. وأضاف خوري: "مصادرة الأراضي لم تتوقف أبدًا. إننا ما نزال نعيش في عصر النكبة".
بعد مغادرته الجامعة الأميركية في بيروت في أواخر الخمسينيات، حصل زريق على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة برينستون الأميركية، ثم دافع عن أطروحة ثانية في الأدب في جامعة ميشيغان. وتابع منظّر القومية العربية مسيرته في الكويت والسودان ومنظمة "اليونسكو"، بينما نشر العديد من الأعمال التي تنتقد ركود المجتمعات العربية. وتوفي في بيروت في العام 2000.
النكبة انتهت، رسميًا، مع آخر هدنة بين العرب وإسرائيل
انتهت النكبة رسميًا مع آخر هدنة عربية-إسرائيلية -في هذه الحالة مع سورية- في 20 تموز (يوليو) 1949. ولإحياء ذكرى خروج شعبهم بين العامين 1947 و1949، اختار الفلسطينيون يوم 15 أيار (مايو). بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، تمثل النكبة علامة زمنية تؤرخ لحظة وطنية سمتها الاقتلاع. واليوم، يتفق العديد من المؤرخين على أن النكبة مستمرة، وإن كانت تتجلى بشكل مختلف. من المؤكد أن المصطلح غير مناسب، لأنه يشير إلى عمليات الطرد التي سبقت وأعقبت إعلان إسرائيل استقلالها. لكنّ بالإمكان استخدامه "لأغراض تعليمية"، ليشير إلى الوضع الحالي للفلسطينيين، الذي يشبه وضع أول اللاجئين.
النكبة المستمرة هي في الواقع انتزاع الفلسطينيين من أراضيهم
تحصي "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، الآن، أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني. وتشكل هذه النكبة المستمرة في الواقع مفتاح المشكلة الإسرائيلية-الفلسطينية: تخيل شعبًا أكثر من نصفه منفي خارج بلاده. من الواضح أن هذه مشكلة كبيرة ظلت دائمًا في قلب هذا الصراع لأكثر من ثلاثة أرباع قرن الآن، كـ"جرح مفتوح" للشعب الفلسطيني.
ثمة عقبة أخرى في الصراع:
عودة اللاجئين
في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1948، مررت الأمم المتحدة قرارًا ينص على أنه "تُقرّر الجمعية العامة أنّه ينبغي السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم بالعودة في أقرب وقت ممكن عمليًا، وأنه ينبغي دفع تعويضات عن ممتلكات أولئك الذين يختارون عدم العودة وعن أي خسارة أو ضرر في الممتلكات، وفقًا لمبادئ القانون الدولي أو العدالة، من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة". وفي 11 أيار (مايو) 1949، وافقت الحكومة الإسرائيلية على هذا القرار في "مؤتمر لوزان". وفي اليوم التالي، تم قبول إسرائيل كعضو في الأمم المتحدة. ولكن منذ ذلك الحين، لم يتم احترام القرار.
لم يقبل الإسرائيليون أبدًا بعودة اللاجئين. كان ما حدث هو عملية تطهير عرقي. ولكي تكون دولة إسرائيل، التي نشأت في العام 1948، دولة يهودية، كانت في حاجة إلى وجود أغلبية يهودية. وبناءً عليه، كان يجب طرد الفلسطينيين. وإلا لكانت هناك دولة يهودية ذات أغلبية فلسطينية.
*د. محمد شتاتو Dr. Mohamed Chtatou: أستاذ علوم التربية في جامعة بالرباط. يعمل حالياً كمحلل سياسي لدى وسائل إعلام مغربية وخليجية وفرنسية وإيطالية وبريطانية، ويهتم بالشأنين السياسي والثقافي في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الإسلام والإسلاموية، والإرهاب. وهو متخصص في الإسلام السياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع اهتمام خاص بجذور الإرهاب والتطرف الديني.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Palestinian Nakba – Analysis
0 تعليق