يشهد العالم اليوم تحولاً غير مسبوق بفعل التقنيات الرقمية، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي (AI) الذي أصبح أداة استراتيجية في تطوير القطاعات الحيوية. وفي المملكة العربية السعودية، يمثّل إطلاق ولي العهد لشركة "هيوماين" نقلة نوعية تؤكد التوجه الطموح نحو الريادة العالمية في هذا المجال.
أهمية الذكاء الاصطناعي في تحقيق الكفاءة والاستدامة
لم يعد الذكاء الاصطناعي في يومنا هذا خيارًا، بل أصبح ضرورة حتمية لتحليل البيانات الضخمة والتنبؤ بدقة بالاحتياجات والمتغيرات المستقبلية، لا سيّما في مجالات كبرى مثل الاستدامة البيئية والأمن المائي والغذائي. وهو ما يجعله ركيزة أساسية في عمليات التخطيط الاستراتيجي، وأداة فعّالة لمواجهة التحديات في ظل الظروف الطبيعية والمناخية المتغيرة التي تشهدها المنطقة.
التحديات الحالية في قطاعات البيئة والمياه والزراعة
تواجه قطاعات البيئة والمياه والزراعة عددًا من التحديات الجوهرية التي قد تؤثر بشكل مباشر على كفاءتها واستدامتها، ومن أبرز هذه التحديات:
· ندرة الموارد المائية وارتفاع معدلات الهدر، مما يشكّل تهديدًا حقيقيًا للأمن المائي ويحدّ من فرص التنمية المستدامة.
· تغير المناخ وما ينتج عنه من اختلالات في التوازن البيئي وتراجع في الإنتاج الزراعي.
· جودة و توفر البيانات المركزية الموحدة ، ما يعيق عمليات التخطيط الذكي واتخاذ القرارات المستندة إلى المعرفة الدقيقة.
·محدودية استخدام الابتكار والتقنيات الحديثة في العمليات التشغيلية اليومية، مما يسهم في انخفاض الكفاءة ويؤخر مسيرة التحول الرقمي.
الأدوار المطلوبة لتفعيل الذكاء الاصطناعي في هذه القطاعات
1- التحول الرقمي الذكي في العمليات التشغيلية
يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًا في تطوير كفاءة العمليات التشغيلية في قطاعات المياه والبيئة والزراعة، وذلك من خلال ما يلي:
· في قطاع المياه: يُمكن توظيف الذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج والمعالجة، ورصد تسربات الشبكات بدقة عالية، إلى جانب تحسين توزيع المياه استنادًا إلى التنبؤات المستخرجة من قاعدة بيانات مركزية ذكية.
· في قطاع البيئة: تتيح التقنيات الذكية مراقبة جودة الهواء والماء والتربة بشكل لحظي، مما يعزز القدرة على رصد المخاطر البيئية والاستجابة لها بسرعة وفعالية.
· في قطاع الزراعة: تُسهم تقنيات الذكاء الاصطناعي في دعم عمليات الري والزراعة الذكية، ما يؤدي إلى رفع الإنتاجية الزراعية وتقليل استهلاك المياه والمبيدات، مع تحسين كفاءة إدارة الموارد.
2- بناء قواعد بيانات ضخمة قابلة للتحليل الذكي
تُعد البيانات عالية الجودة والمركزية حجر الزاوية لنجاح تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي. ولذلك، فإن إنشاء منصات بيانات موحدة ومتكاملة للقطاعات الحيوية (كالبيئة، والمناخ، والمياه، والزراعة) هو شرط أساسي لتمكين التحليلات المتقدمة واتخاذ قرارات قائمة على المعرفة الدقيقة.
تُمكن هذه المنصات من:
-
التنبؤ المبكر بالظواهر المناخية القاسية.
-
تقدير الاحتياجات المائية للمحاصيل بدقة عالية.
-
التنبؤ بإنتاجية المحاصيل الزراعية بناءً على الظروف البيئية.
-
رصد التغيرات البيئية وتأثيراتها على جودة التربة والمياه.
وتُعزز هذه التحليلات المتعمقة من قدرة متخذي القرار على صياغة استراتيجيات مستندة إلى الأدلة، كما أن الاستثمار في حوكمة البيانات وضمان جودتها يمثل عنصرًا حاسمًا لضمان دقة مخرجات أنظمة الذكاء الاصطناعي وقابليتها للتنفيذ على أرض الواقع.
3- الشراكات البحثية والتطبيقية
تُعد شركة هيوماين من المبادرات الوطنية الواعدة التي تم إطلاقها لإنشاء شراكة استراتيجية رائدة تجمع بين الجهات الأكاديمية والبحثية والقطاع الخاص، بهدف تسريع تطوير ونشر حلول مبتكرة في مجال الذكاء الاصطناعي، مصممة خصيصًا لتلبية الاحتياجات والتحديات المحلية في المملكة العربية السعودية.
وتتميز هذه المبادرة بدعم قيادي متميز، حيث يرأس مجلس إدارتها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، مما يعزز من مكانة الشركة ودورها المتوقع في دمج الخبرات البحثية العميقة مع القدرات التطبيقية والتسويقية للقطاع الخاص.
رغم أن شركة هيوماين لا تزال في مرحلة الإنشاء ولم تبدأ عملياتها التشغيلية بعد، فإنها تمثل منصة استراتيجية مهمة لتوحيد الجهود الوطنية وتحويل المخرجات البحثية إلى حلول واقعية وقابلة للتطبيق على نطاق واسع.
ومن المتوقع أن تسهم هذه المبادرة في دعم المبادرات الوطنية الكبرى والبرامج التحولية مثل "السعودية الخضراء"، وبرامج إدارة المياه المجددة والموارد الطبيعية، مما يعزز من تأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي في:
-
تحقيق الاستدامة البيئية.
-
تعزيز الأمن المائي والغذائي.
-
تحسين جودة حياة المجتمع السعودي بشكل ملموس.
4- تطوير وتأهيل الكفاءات الوطنية
تُعد مبادرة "سماي"، التي أطلقتها الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، والموجهة لتمكين مليون مواطن سعودي من اكتساب المهارات والمعارف في مجال الذكاء الاصطناعي، خطوة استراتيجية بالغة الأهمية لدعم التحول الرقمي في المملكة. فالتحول الرقمي لا يمكن أن ينجح دون وجود موارد بشرية وطنية مؤهلة ومدربة على استخدام أدوات وتقنيات تحليل بيانات الذكاء الاصطناعي، بما يتوافق مع احتياجات القطاعات المختلفة، خاصة في مجالات البيئة والمياه والزراعة. كما نرى أن تُدمج مهارات الذكاء الاصطناعي ضمن المناهج الجامعية، لا سيما في التخصصات العلمية للبيئة والمياه والزراعة ، بهدف بناء جيل من المتخصصين القادرين على قيادة المستقبل والابتكار في هذه القطاعات الحيوية.
5-دعم الابتكار وريادة الأعمال
يُعتبر تحفيز الابتكار ركيزة أساسية لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة في قطاعات الذكاء الاصطناعي الزراعي والبيئي. ومن هنا تبرز أهمية دعم الشركات الناشئة المتخصصة في هذه المجالات، عبر توفير بيئات حاضنة تقنية متطورة تساعدها على تطوير حلول ذكية وعملية لمعالجة التحديات الواقعية.
كما يلعب دعم ريادة الأعمال دورًا محوريًا في تمكين المملكة من بناء منظومة وطنية متكاملة تساهم في الابتكار التقني، وتسهم في رفع تنافسية السوق المحلي والدولي، مما يفتح آفاقًا واسعة لتصدير الحلول الذكية السعودية إلى الأسواق العالمية، وتعزيز مكانة المملكة كمركز إقليمي وعالمي للابتكار في الذكاء الاصطناعي.
6- نماذج وتطبيقات ناجحة
تشير التجارب الدولية إلى نتائج ملموسة ومشجعة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في قطاعات المياه والبيئة والزراعة، مما يبرز الإمكانات الهائلة لهذه التقنيات في تحسين الكفاءة وتحقيق الاستدامة.
سنغافورة: نجحت في استخدام الذكاء الاصطناعي لرصد تسربات المياه بدقة وصلت إلى 90%، مما ساهم بشكل كبير في تقليل الهدر وتحسين إدارة الموارد المائية.
هولندا: طبّقت تقنيات الزراعة الدقيقة المدعومة بالذكاء الاصطناعي، مما أدى إلى زيادة إنتاجية المحاصيل بنسبة تجاوزت 20%، مع تقليل استخدام الموارد كالمياه والأسمدة.
تمثل هذه الأمثلة نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها وتوطينها محليًا، بما يتناسب مع خصوصيات واحتياجات المملكة، لدفع عجلة التحول الرقمي وتحقيق التنمية المستدامة في القطاعات الحيوية.
ونرى انه من المهم العمل بهذه التوصيات
· تفعيل التكامل والتنسيق بين الجهات الحكومية، والقطاع الخاص، والمؤسسات البحثية لتعزيز جهود التحول الرقمي في قطاعات البيئة والمياه والزراعة.
· تطوير سياسات مرنة ومرتكزة على التيسير لتسهيل تبني التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، مع توفير الأطر التنظيمية الداعمة للابتكار.
· الاستثمار الحكومي المباشر في بناء وتطوير البنية التحتية الرقمية المتخصصة في القطاعات البيئية والزراعية والمائية، لضمان توفر بيانات موثوقة وآليات تحليل متقدمة.
· تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار والدخول بقوة في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال تقديم الحوافز والدعم الفني والمالي.
إطلاق مبادرات توعوية وتثقيفية تستهدف المجتمع لتعزيز الوعي بأهمية التحول الرقمي المستدام ودوره في تحقيق الأمن البيئي والمائي والغذائي
وفي الختام
يمثل التحول الرقمي المدعوم بتقنيات الذكاء الاصطناعي ضرورة استراتيجية لا غنى عنها لتحقيق التنمية المستدامة وتعزيز القوة الوطنية في مجالات المياه والبيئة والزراعة. باتت هذه القطاعات مطالبة بالانتقال من الأدوار التقليدية إلى مراكز ريادية للمعرفة والابتكار والتفوق الرقمي. ومع إطلاق شركة "هيوماين"، تتجسد رؤية المملكة الطموحة في قيادة التحول التقني على مستوى المنطقة، لتفتح آفاقًا جديدة نحو مستقبل ذكي ومستدام يعزز من مكانتها العالمية ويحقق رفاهية مجتمعية مستدامة.
"رؤيتنا واضحة: أن نكون من الأوائل عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي، لأنه مستقبل الاقتصاد والعلم والتقنية." صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان
لذا، يجب أن تتضافر جهود الجميع — الحكومات، القطاع الخاص، والقطاع البحثي — لتسريع تبني هذه التقنيات، وتحويل التحديات إلى فرص تحقق ازدهار المملكة وتنمية مستدامة لأجيالها القادمة.
0 تعليق