فقر البحث الأكاديمي

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

من المعلوم بالبداهة أن مستوى جودة التعليم العالي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بترتيب مستوى الجامعات والمعاهد العليا وفقًا للمقاييس العالمية المعترف بها. ومن المعلوم أيضًا وفقًا للإحصائيات أن الجامعات العربية تحتل- بدرجات متفاوتة- مكانة متدنية وفقًا لهذه المقاييس. ولا شك في أن سبب ذلك يرجع في المقام الأول إلى تدني مستوى البحث العلمي والأكاديمي عمومًا في الجامعات العربية.

حقًا إن تصنيف الجامعات وتحديد مستواها يعتمد على عوامل عديدة يُقاس كل منها على حدة؛ ولكن لا مراء في أن مستوى البحث العلمي يُعد عاملًا أساسيًّا في تحديد مستوى هذه الجامعات. ذلك أن قوام الجامعة الأساسي هو الأستاذ والطالب، أما ما بينهما وما خلفهما إنما يكون عوامل مساعدة في خدمة العملية التعليمية بين الأستاذ والطالب.

ولكن العملية التعليمية لا ينبغي فهمها على أنها مجرد عملية تدريسية لمقررات تؤهل الطلبة لخدمة مجتمعهم في شتى المجالات، وإنما هي عملية ينبغي أن تُنتج أو تصطفي طلابًا مؤهلين للإبداع في البحث العلمي الأكاديمي الذي به تنهض الدول ويرتفع شأنها في مصاف الدول المتقدمة، فالجامعات الكبرى حول العالم هي معاقل للبحث العلمي الأكاديمي، وهي تخصص لهذا البحث أموالًا طائلة.

وعلى هذا يمكن القول إن أحد الأسباب الرئيسية لتدني مستوى الجامعات العربية هو تدني مستوى البحث فيها. ولكن السؤال الذي يطرأ على الأذهان مباشرةً هو: ما الشواهد على تدني مستوى البحث؟ وما أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟ هذا هو ما سوف أحاول إيضاحه بإيجاز فيما يلي:

ينبغي التأكيد منذ البداية على أنني عندما أستخدم تعبير «ظواهر تدني مستوى البحث العلمي في عالمنا العربي»، فإنني أعني بالظاهرة هنا الحالات العامة السائدة، وليس الحالات الاستثنائية هنا وهناك، وهي الحالات التي لا تشكل ظاهرة عامة. تتمثل ظاهرة فقر البحث العلمي في الافتقار إلى البحث عن موضوع أو فكرة جديدة، أو الافتقار إلى رؤية خاصة أصيلة في تناول موضوع أو فكرة ما مطروحة من قبل. وعلى هذا يمكن القول إن البحث وإن لم يطرح موضوعًا أو فكرةً جديدة؛ فإنه لا يجوز أن يتطرق إلى نفس الفكرة بنفس الرؤية المطروحة من قبل؛ لأن البحث بذلك سيكون مجرد تجميع لاقتباسات مما هو معروف ومتاح للمعرفة، أو سيكون مجرد كتابة فيما هو مكتوب من قبل أو تصديق على ما سبق إقراره من قبل.

الافتقار إلى الرؤية في إعداد البحث هو افتقار إلى المنهج الذي يمكن أن ننظر من خلاله إلى شيء ما. ومن الضروري هنا أن ننبه إلى سوء استخدام أدوات البحث العلمي في العلوم الإنسانية خاصةً، كما هو الحال عندما يلجأ الباحثون إلى استخدام استبيانات إحصائية في كل مجال بهدف القياس الإحصائي لموضوع ما من دون معرفة أوفهم لطبيعة الموضوع ذاته الذي قد يتطلب أدوات ومقاربات منهجية مختلفة في البحث؛ ناهيك عن أن هذه الاستبيانات نفسها كثيرًا ما تكون مصممة بطريقة سطحية ساذجة؛ وبالتالي فإنها لا تعد شاهدًا أو دليلًا، وهذا ما يُعرَف في فلسفة العلوم بمصطلح «الافتقار إلى الدليل الكافي» أو «عدم كفاية الدليل»underdetermination . ومن هنا فإني أرى أن تدريس «مناهج البحث في العلوم الإنسانية» ينبغي أن يكون متطلبًا دراسيًّا عامًا لدارسي العلوم الإنسانية أيًّا كان مجال تخصصهم الأكاديمي؛ تمامًا مثلما أن مناهج البحث في العلوم الدقيقة والتطبيقية ينبغي أن تكون متطلبًا عامًا لدارسي تلك العلوم.

إضافة إلى ذلك، فإن هناك ظاهرة أخرى تشهد على تدني مستوى البحث الأكاديمي وهي الاهتمام بالكم لا الكيف، وهي ظاهرة شائعة تأصلت في جامعاتنا العربية بفعل نظام عقيم يربط الترقي في الحصول على الألقاب أو الدرجات العلمية باستيفاء الباحثين لعدد معين من البحوث التي تتطلبها الشروط الشكلية للنشر. بل إن الاهتمام بالكم يتمثل أيضًا في بنية البحوث نفسها: فالبحث الجيد أو الذي تتم إجازته هو ذلك الذي يعتمد على وفرة كبيرة من المصادر والمراجع التي اعتمد عليها الباحث! في حين أننا لو دققنا النظر في عمق الأمر سنجد أن هذا قد يكون دليلًا على ضعف البحث عندئذ؛ لأن البحث يكون معتمدًا على كثرة من الاقتباسات أو العنعنات؛ وبالتالي لا يكون هناك مجال واسع يكشف عن رؤية الباحث نفسه. ويكفي في هذا الصدد أن نتأمل كتابات المبدعين والفلاسفة لنجد أنها قلما تعتمد على مصادر ومراجع إلا عند الضرورة! والفقرة التالية الواردة في كتاب المفكر عبد الوهاب المسيري في كتابه «رحلتي الفكرية» تعبر بوضوح وبساطة عما أفصحت عنه هنا:

«الدراسة الأكاديمية هي الدراسة التي يكتبها أحد المتخصصين الأكاديميين دونما سبب واضح ولا تتسم بأي شيء سوى أنها «صالحة للنشر» لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية (من توثيق ومراجع وعنعنات علمية موضوعية) تم الاتفاق عليها بين مجموعة من المتخصصين والعلماء. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات (التي يُقال لها «أبحاث» مع أنها لا تنبع من أية معاناة حقيقية ولا تشكل «بحثًا» عن أي شيء) هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها المسيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة. فتتم ترقيته، فالصالح للنشر هو عادة ما يؤهل للترقية. قد تقوم الدنيا ثم تقعد وقد يُقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب «البحث» لا يزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر...، ويخرج المزيد من الكتب. ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تُقرأ فيها أبحاث أكاديمية لا تبحث عن شيء... - وهو - يتحرك في عالم خالٍ من أي هموم إنسانية حقيقية - عالم خالٍ من نبض الحياة: رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية».

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق