إعداد: جيهان شعيب
في مثل هذا اليوم 16 مايو عام 2002، وافت المنية تريم عمران تريم، القومي العروبي، والسياسي المحنّك، والإعلامي القدير، بعد رحلة حياة كان فيها عصياً على أن تنتصر عليه الأوضاع التي تعرض لها، والمعارك التي خاضها، والعثرات التي واجهته. كما كان رجل إرادة حرة، وتصميم لا يلين، وكلمة لا تتزعزع، ومواقف ثابتة. ولعل دوره الفاعل في جميع مراحل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، مع شقيقه الدكتور عبد الله عمران تريم، رحمهما الله، شاهد على ذلك.
الراحل الذي صعدت روحه الطيبة إلى بارئها في أحد مستشفيات لندن، بعدما تغلب عليه مرضه العضال، لاتزال سيرته العطرة تتحدث عن روحه النقية، وقلبه الذي كان مفعماً بمحبة شاملة، وبعطاء متدفق، وإخلاص وصدق، ولاتزال ابتسامته الحانية تنطوي عليها قلوب محبيه، وتلاميذه، ومعارفه، فقد كان هيناً ليناً، حازماً حاسماً، دونما صلف أو تعنّت. ويبقى تواضعه محل تذكر، وتقدير، ممن خالطوه، وثمنوه فيه، حيث الكبير ليس بحاجة لتأكيد ماهيته أو التدليل عليها.
وبتذكر بعض المحطات المحورية الفاصلة في مسيرة تريم عمران، يتصدر دوره السياسي المشهد، حيث كان من أوائل الدبلوماسيين الإماراتيين في الخارج بأمر من المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، فضلاً عن تأسيسه مؤسسة «دار الخليج للصحافة والطباعة والنشر»، مع شقيقه الدكتور عبد الله عمران عام 1970، وتوليه رئاسة مجلس إدارتها حتى رحيله.
سيرة عطرة
الراحل تريم عمران تريم، ولد في إمارة الشارقة عام 1942، ودرس مرحلته الابتدائية في مدرسة القاسمية في الشارقة، وكذا مرحلته الإعدادية، بعد ذلك انتقل إلى دولة الكويت، ودرس لمرحلة قصيرة، مع شقيقه الراحل د. عبد الله عمران في ثانوية الشويخ، ثم عادا إلى الشارقة، ليستكملا دراستهما الثانوية في مدرسة القاسمية. بعد ذلك وفي أوائل عقد الستينيات توجه تريم عمران إلى جمهورية مصر العربية، والتحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وهناك تبلورت شخصيته القومية العروبية، حيث كان حريصاً على حضور المنتديات الفكرية والسياسية، ودخول المنظمات الطلابية المصرية والعربية، وتأثر بالرؤى الناصرية للزعيم جمال عبد الناصر، التي كانت تنادي بالاستقلال والوحدة، وكان ناشطاً رئيسياً في تعريف المجتمع الطلابي المصري بمنطقة الخليج. كما شارك في تأسيس الاتحادات الطلابية، وعقب تخرجه عمل في ثانوية العروبة فمديراً لمدرسة المعارف في الشارقة.
مسيرة مشرّفة
وحين قيام الدولة عام 1971 اختاره المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، سفيراً للإمارات في جمهورية مصر العربية، ومارس العمل الدبلوماسي لنحو خمس سنوات. وفي عام 1976 ترأس وفد الإمارات في الجامعة العربية، وكان أول مندوب لها فيها، وكان مقدراً فيه عدم تغيبه عن أي من اجتماعاتها في مختلف أنشطتها، وكان من الدبلوماسيين الذين يتركون بصماتهم في كل مقترح، وتوصية، وقرار يسهم في العمل العربي المشترك، ويدعم التضامن العربي، ويعزز العلاقات العربية في إطار الجامعة.
وفي عام 1977 ترأس تريم عمران المجلس الوطني الاتحادي لدورتين متتاليتين، وكانت له بصمة مشهودة ومشاد بها، في المطالبة بتوسيع الصلاحيات الاتحادية، وتقليص السلطات المحلية، ليعمل المحلي مع الاتحادي للمصلحة العامة مع تغليبها بشكل عام، وتجنب الانحياز للقبلية، مع إصراره على أن تسري التشريعات الاتحادية، ومشروعات القوانين التي يجيزها المجلس على كل أنحاء الدولة، إعمالاً لنصوص الدستور.
دور تاريخي
طور الراحل أسلوب النقاشات، والخروج بها من النمطية والمناطقية، وكان من أبرز إسهاماته في تلك الأثناء، وضعه وصياغته مواد المذكرة المشتركة الخاصة بتعزيز اتحاد الدولة، التي لأهميتها عقد لها جلستي نقاش مشتركتين عام 1979 مع مجلس الوزراء، وكان مطلبها الرئيسي توطيد أركان الاتحاد وتعزيزها. وكان لكل من الشقيقين الراحلين تريم عمران وعبد الله عمران، رحمهما الله، دورهما التاريخي في جميع مراحل تأسيس الدولة، حيث كانا ضمن الوفد الرسمي لإمارة الشارقة في المفاوضات التي سبقت الاتحاد السباعي، وكانا ممن طالبوا بتوحيد إمارات الخليج التسع، مطلع سنوات السبعينيات، عقب خروج الاحتلال البريطاني.
العمل الإعلامي
عام 1970 تمثلت القفزة الكبرى في مسيرة الراحلين تريم عمران وعبد الله عمران، رحمهما الله، في العمل الإعلامي، حين أسسا جريدة الخليج، التي واجها في سبيل إخراجها لأرض الواقع الكثير من المعوقات، والمشكلات، والحروب، والإمكانات المتواضعة، فيما بدأت قصتهما في ذلك حينما أصدرا مجلة الشروق السياسية الشهرية.
وواجهتهما حينها صعوبات مختلفة، كان أبرزها أنه لم تكن في الشارقة والإمارات المتصالحة مطابع مؤهلة لذلك، فقرّرا التوجه إلى الكويت، واختارا فجحان هلال المطيري، الذي كان ناشراً يمتلك مطبعة حديثة مع زوجته غنيمة المرزوق، التي تصدر مجلة أسرية تدعى «أسرتي»، وتعهد لهما بطباعة المجلة (وجريدة الخليج بعد ذلك) تحت الحساب، وكانت المادة الصحفية تكتب في الشارقة، وفي الأسبوع الأخير من كل شهر، يحملها تريم عمران إلى الكويت، ويعود بها مجلة مطبوعة.
بعد ذلك فكّرا بإصدار «الخليج»، أول جريدة سياسية، ومطبوعة يومية تتناول المجريات، وتستعرض المستجدات، وبالفعل صدرت في أكتوبر عام 1970، وكانت تصدر بين الشارقة والكويت، حيث يتولى الصحفيون في الشارقة جمع الأخبار وتلقّيها عبر الهاتف، ثم كتابتها، وإرسالها إلى الكويت، وانتظارها صباح اليوم التالي، ولذلك كانت هناك رحلة طيران يومية بين الكويت والشارقة، بما في ذلك من صعوبات.
حروب مهنية
خاضت «الخليج» منذ صدورها الأول حروباً مهنية وسياسية، منها مطالبة أصحاب الصحف في الكويت بوقف إصدارها في بلادهم، فضلاً عن حرب الجريدة مع بعض التيارات، لإصرارها على عروبة الخليج، والجزر الإماراتية.
ومن المنغصات التي واجهت الشقيقين حين إصدارهما «الخليج»، مطالبة المعتمد البريطاني في الإمارات المتصالحة أكثر من مرة بإغلاقها، لان جرأة «الخليج»، وخطابها القومي أزعجاه، فيما تعلل بأنها تفسد الجهود التي تبذلها بريطانيا آنذاك لحل مشكلة الجزر، ولإدراكه أن «الخليج» صدرت من أجل الخليج الموحد، لذلك في اجتماع السير وليم لوس، الوزير البريطاني، مع الدكتور عبد الله عمران، طالب بإغلاق الصحيفة، والتوقف نهائياً عن الكتابة عن مفاوضات الجزر، فرفض. وتبلور ردّه وشقيقه تريم عمران، في أن بريطانيا احتلت المنطقة زهاء 150 عاماً، وجعلتها في طيّ النسيان، لا تعليم، ولا صحة، ولا أي خدمات، وعندما قررت الانسحاب، تطلب من أهلها السكوت عن جريمة ترتكبها، بتسليم جزء من أراضيها إلى شاه إيران.
وكان للراحل الدكتور عبد الله عمران قوله: كان إصدار «الخليج» تجسيداً لرسالة إعلامية ومبادئ آمن بها المؤسسون، وتبلورت بقيام مشروع وحدوي في الخليج بعمق عربي، وانتماء قومي، وترسيخ الهوية الحضارية العربية، والإسلامية، وتأكيد الذاتية الثقافية العربية المستمر، وطرح أفكار للنهوض، والتنوير، والمعرفة، والحريات العامة، والغاية أن تكون «الخليج» ضمير الوطن والأمة، وصوت الإنسان العربي في كل مكان.
ملامح رئيسية
تميزت شخصية الراحل تريم عمران ومسيرته بملامح رئيسية أبرزها القومية، حيث انحاز للتيار القومي العروبي الذي يرى الزعيم عبد الناصر، صاحب مشروع وحدوي، وتحرري، واستقلالي صالح للوطن العربي.
كان عضواً فاعلاً ونائباً لرئيس مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، ونائب رئيس لجنة الإمارات للتكافل العربي، وعضواً في مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية، وفي منتدى التنمية الخليجي، وفي هيئات عربية ودولية. كان ملتزماً بقضايا أمته، ومناصراً للقضايا العادلة في العالم، وكان من رموز التيار المستقل، وترك تراثاً من الكتابات الصحفية التي تناولت مختلف القضايا الوطنية والقومية.
مركز الخليج
ترأس مجلس إدارة مركز الخليج للدراسات، الذي كان يُصدر تقارير عن القضايا العربية عامة والخليجية خاصة، كما ترأس مجلس إدارة مؤسسة تريم عمران تريم للأعمال الثقافية والإنسانية، وألف الكثير من الكتب عن قيام الإمارات، وكان عضواً فاعلاً في كثير من مراكز الأبحاث والدراسات. كان مؤمناً بالحرية ويعبر عنها بقوله «قد نختلف، وقد نتناقش، وأننا نؤمن بحق الآخرين في التفكير، والنقاش بكل حرية، ولكننا في النهاية نلتزم بالرأي الصحيح، والملائم لأوضاعنا، وأن حلّ كل خلافاتنا الفكرية سيكون عقلانياً، من دون تدمير ما نبني، أو ما ورثناه، إننا في النهاية إخوة في العروبة، والمواطنة، وفي مواجهة الخطر».
0 تعليق