يُغلَّفُ الزواج عاما بعد آخر بمزيد من قوى الاستهلاك، فتبتكرُ الطقوس وتستورد، وتُعزز العدوى فـي وسائل التواصل الاجتماعي بشكل محموم وممنهج، فـيتجرعُ الزوجان مرارات العيش لسنوات لاحقة جراء تلك الاستجابة، إذ قلما يتنصلُ أحدنا من توحش الإملاءات الاجتماعية!
شاهدتُ الفـيلم المصري «الفستان الأبيض» للمخرجة جيلان عوف، وكنتُ مُنذهلة من فكرة أن ينهض فـيلم كامل مدته ساعة وربع على تفصيل ضئيل للغاية: بحثُ شابة عن فستان لعرسها! إلا أنّ تلك الفكرة التي قد تبدو هشة، أخفت تحت طياتها التوترات الاجتماعية الأكثر صخبًا. لم تكن «وردة» عروسا مُبتهجة فـي الفـيلم، كان وجهها يُنبئ عن شقاء غير محدود فـي نشيد رثائي جامح، جرّاء المُحددات القاسية التي تفرضها على نفسها أو تفرضها الأعراف عليها!
قد يبدو «الفستان الأبيض» مركزيا فـي الفـيلم، لكنه ليس أكثر من تورية مجازية عما يكمن فـي طبقات المجتمع المتباينة من تمزق للأبطال الكادحين فـي مطاردة أفراحهم الهُلامية!
يناقشُ الفـيلم فكرة: أين تكمن قيمة الأشياء؟ هل نحبها لذاتها؟ أم أننا مجرد استجابة لمُحرضات خارجية؟ ولماذا علينا جميعا أن نبدو شيئًا واحدًا وراضخين لطريقة عيش واحدة؟ لماذا نُطالعُ حياة الآخرين ونتمناها؟ نتمنى أشياءها؟!
تشير فايزة هنداوي فـي مراجعتها للفـيلم فـي القدس العربي إلى تلك الرمزية اللافتة: «الفستان الأبيض قد لا يكون منقذًا، بل قيد طبقي مُغلف بالساتان».
فـي المشي المُدجج بالرغبة، تبحث «وردة» وبنت خالتها «بسمة» عن فستان، فتُضاءُ الفروقات العارمة بين الناس، فكلما تناءى الفستان -كشيء لا يُدرك- تعرت مشقة الحياة. وكأنّ ليلة العمر والتحول الرمزي من «فتاة» إلى «زوجة» ينبغي أن يمر من خلال قطعة القماش تلك، مهما بدت سيئة وقبيحة وخارج الذوق!
قصّة الفـيلم نهر علامات مُتدفق، ابتداء من وحش الفقر الذي يُقلل هامش اختيار الشخصيات، وليس انتهاء بالإيماءات الدالة على تبايناتنا الطبقية فـي حيز مكاني واحد.
ولعلنا نجد ارتدادا لهذه الفكرة فـي حياتنا الآن، فالجيل الجديد من الشباب يقفُ عاجزًا عن خطو خطوة «الزواج»، لما يقع أسفل مياهها الصافـية من دوامات مُهلكة. يتعمقُ السؤال لديهم: لماذا نتزوج؟ هل المسألة رهن متطلب بيولوجي اجتماعي مُعقد، يندفع إليه البعض تحت ضغوطات من هذا النوع، دون محرضات أعمق، تنتج عن وعي بمشروع الشراكة واللغة والاهتمامات بين الطرفـين؟
تضع بعضُ الأُسر ما أمامها وما خلفها من أجل أن تنجح ليلة العمر، بكل تمظهراتها المالية القاسية، فقياس نجاحها كامنٌ فـي أن تغدو على كل لسان!
ثم يجد العِرسان أنفسهم تحت سقف واحد مع شريك لا يعرفونه جيدا! فـي بلدان لا توفر مساحة تعارف آمنة بين قطبين مُتباعدين، رغم ما تخترقنا به وسائل التقنية الحديثة من فرص اتصال قد تغدو مشوهة للكثير من العلاقات!
هكذا يعيش أحدنا فـي تناقضٍ جدير بالفحص بين «المتاح» وبين الشريك «المنتقى» والذي يأتي إلى حياتنا غالبا من طرق تقليدية!
فـي المقابل ليس على أحدنا اليوم أن يُنكر تأثير السوشيال ميديا أو من يطلق عليهم كلمة المؤثرين، فمنذ أيام ضجت وسائل التواصل الاجتماعي، بمقطع من عرس الشيف اللبنانية عبير الصغير عندما طلبت أن يكون مهرها مصحفا.. وهذا قد يكون مثار عدوى إيجابية بين بنات اليوم والعوائل المُتطلبة.
يظهرُ فستانٌ ليختفـي آخر فـي رحلة بحث «وردة»، بوجهها المصفر وثيابها المتهالكة، من محلٍ راقٍ إلى صالونات تجميل إلى عزاء إلى مُجَهِزة فساتين الفنانات، فتثور الأسئلة وتنبثق انكسارات البسطاء من مكامنها الغامضة. وتشير هنداوي إلى أنّ «السيناريو كُتب بواقعية تستمد قوتها من صدق المشاعر وليس من تصعيد الأحداث، هذه الواقعية تفتح مساحة حقيقية للتفاعل بين الشخصية والمكان، وبين الذات والآخر».
الفـيلم المقتصد والمُكتفـي بواقعية الأحياء والبشر، حركتهم وعشوائيتهم فـي البيوت والمواصلات وأماكن البيع، والتآزر الذي لمع كمعدنٍ ثمين بين نسوة الحي لإنعاش فستان قديم كي يُعاد إلى الحياة، بدا كمرايا عاكسة للقوالب الشبحية التي تصنعها المجتمعات، تلك التي تُصور مؤسسة الزواج على نحو كارثي، كنهبٍ مُتعمد للمال وللاستقرار النفسي وكانحدار غير آمن إلى مزالق لا عودة منها!
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير «نزوى»
0 تعليق