غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
في خيمةٍ متواضعةٍ من مخيم البريج، وسط قطاع غزة، يرقد الطفل «أمجد عبد الله» على بساطٍ رقيقٍ في غرفةٍ ضيقة، ترتجف يداه الصغيرتان بلا وعيٍ حين تحاولان الإمساك بلعبةٍ بسيطة. يتحرك جسده النحيل بفعل التشنجات الدائمة، ويمرّ لسانه على شفتيه الجافتين بحثًا عن قطرات ماءٍ أو حليبٍ لا يعرف طعمهما منذ رحيل والديه.
بعد اندلاع حرب السادس من أكتوبر 2023 بأيام، اجتاح القصف منزلهما وانتهت حياة والده «عبد الله» وأمه «سلمى»، تاركين وراءهما أمجد وحيدًا في الظلام، بلا حضنٍ مألوفٍ أو حديثٍ مطمئن.
كانت الأم تعشق رؤية الشمس تلامس وجه طفلها وتغني له بصوتها الهادر لحناً يختبئ في قلبيهما، أما الأب فقد كان يرفض تفويت لحظةٍ واحدة من يومه دون أن يضحك مع أمجد أو يحكي له قصص الجنيات التي سمع عنها في طفولته. اليوم، وصمةُ شلل الأطفال تُزيد من آلامه، وهو ينتظرُ الجرعة التي قد تُغنيه عن حياةٍ من الألم والإعاقة.
طفولةٌ مُعلّقة
ليست قصة أمجد استثناءً، فهو واحدٌ من نحو 602 ألف طفلٍ في غزة قطعت عنهم إسرائيل – منذ أربعين يومًا – شريانَ الحياة الأهم: لقاح شلل الأطفال. في ذاك الصباح البائس، رمى العاملون الطبيون حقائبهم على الرصيف أمام مستشفى ناصر وأعلنوا أنهم لا يقدرون على إدخال المزيد من الأمصال.
كانت تلك الصدمة لدى ذوي الأطفال تشبه موجةً زلزاليةً هزّت صروح الأمل المتهالكة أصلاً. منهم من جَهِلَ أن جرعةً واحدةً كافيةٌ في كثير من الأحيان لوقايةٍ تدوم، وآخرون دانوا أنفسهم لأنها «ضربةٌ إضافية» في وجه أطفالٍ أرهقهم الحصار وقصفُ الحرب.
ثمّة أمرٌ مُرعبٌ في أن يعيش الطفل حالةَ اليتيم مع احتمال أن يبقى مُقعدًا مدى الحياة، وأن يُصبح أسيرَ شللٍ علّق ابتسامته بين المرارة والألم. وفي هذه اللحظة بالذات، ينثر الحصارُ غبارًا من اليأس فوق وجوه أهالي غزة، الذين جمعوا آخر ما تبقى لديهم من إرادةٍ ليدافعوا عن أبنائهم وأدنى حقوقهم في الحياة.
واقعٌ يُعانق الأزمة
لم تعد الوقاية من شلل الأطفال في غزة تتعلق بوصول اللقاح فحسب، بل صارت معركةً من نوعٍ آخر: معركة إرادةٍ بين حقِّ الطفل في صحته وبين سياساتٍ تمنع وصول أبسط أشكال الرعاية.
في سبتمبر 2024، نجحت المرحلة الأولى من حملة التطعيم ضد شلل الأطفال بتطعيم أكثر من 560 ألف طفلٍ دون سن العاشرة بعد أن سجل القطاع أول إصابة مؤكدة لطفلٍ لم يتجاوز عشرة أشهر، وفق ما أعلن تيدروس أدهانوم غيبريسوس، مدير عام منظمة الصحة العالمية.
وفي نوفمبر من العام نفسه، أكملت المرحلة الثانية بتطعيم 556,774 طفلاً. واستُؤنفت المرحلة الثالثة في فبراير الماضي، فجمعت نحو 600 ألف طفلٍ تلقوا لقاحهم الفموي في إطار الجهود الوقائية. إلّا أن هذه الجهود كلها اصطدمت منذ أربعين يومًا بقرارٍ إسرائيلي يمنع دخول شحنات اللقاح الجديدة.
في عتمة هذا المنع، تبدو الإحصاءات مخيفةً: نحو 602 ألف طفلٍ مهدّدون بخطر الإصابة بشلل دائمٍ وإعاقةٍ مزمنة إذا لم يحصلوا على الجرعتين الأساسيتين من اللقاح الغذائي.
وقد أكدت وزارة الصحة في غزة أن أطفال القطاع باتوا عرضةً لمضاعفات صحية خطِرة وغير مسبوقة، تتقاطع مع أزماتٍ أخرى من انعدامٍ شبه تامٍ لمصادر التغذية السليمة ومياه الشرب النظيفة. وعليه، يُنذر هذا المنع بانفجارٍ وبائيٍّ جديدٍ يضاف إلى معاناةٍ متراكمةٍ منذ انطلاق حرب السابع من أكتوبر.
لكن السؤال الأهم يبقى: لماذا تصرّ إسرائيل على قطع شريان الوقاية عن الأطفال؟ ماذا يجني الاحتلال من إضافاتٍ جديدةٍ من المعاناة إلى أهل غزة؟ وإلى متى سيبقى 602 ألف طفلٍ يواجهون مصيرًا مجهولًا أمام الجدار المسدود؟
همساتُ القلق في قلب اليأس
«ما بدي يأخذ روحه».. تتحدث خالته منى محمد، بصوت يحدوه القلق: «أمجد زمان كان يلعب في كل ركن بالبيت، كان يصرخ باسم جدته، ويضحك من قلبه. الآن، أبيه وأمه استشهدوا وما بقى إلا أنا أحاول أن أحميه. كل ما تأتي له نوبة، أذهب الى المستشفى».
تتمنى أن ينجح المجتمع الدولي في الضغط على الاحتلال، الذي يتعمد منع دخول اللقاحات. اكمل خلال حديثها لـ«عُمان»: «نتمنى أن يستطيع أحد إن يجلب اللقاح قبل ما نفقده، لو أمل صغير عنده. أمجد لا يتمنى أن تنتهي حياته، وهي لم تبدأ بعد».
«هاللّقاح حقُّه».. تعقب عمّته سلوى عبد الله بغصةٍ ظاهرة: «يعني معقول يحرم هذا الطف الغلبان الصغير من أبسط حق؟! الحصار والبراميل خلّوه يتيم، والآن ما بقدر يأخذ جرعته. هذا لقاح يلزمه ليستطيع أن يعيش طبيعي، يكفي قهر على الأطفال».
صوتٌ من قلب الجراحة
د. حازم كحيل، جراحٌ وأخصائيُ أعصابٍ في مستشفى الشفاء بغزة، يصف الوضع بقوله: «منع إدخال لقاح شلل الأطفال إلى القطاع يُشكّل خطورةً بالغةً، خاصةً أنّ غزة سبق أن صُنّفت كبؤرة موبوءة في سبتمبر 2024 عقب تسجيل الإصابة الأولى».
ويؤكد: «اللقاح الفموي يُعَدّ الأساس الاحتياطي في حالات الأوبئة، وقد أنقذ حياة مئات الآلاف من الأطفال خلال حملات السنوات الماضية».
ويحذر خلال حديثه لـ«عُمان»: «في غياب اللقاح، سيبقى الأطفال عرضةً لتلفٍ دائمٍ في النخاع الشوكي، ولن يكون أمامنا سوى التعامل مع حالاتٍ من الإعاقة لا رادّ لها، مع ما تستلزمه من رعايةٍ طويلة الأمد وتكاليفٍ اجتماعيةٍ وصحيةٍ باهظةٍ».
تحذير صحي: مضاعفات وإعاقات مزمنة
أوضح منير البرش، مدير عام وزارة الصحة في غزة، أن قرار منع دخول لقاح شلل الأطفال مستمر منذ أربعين يومًا متواصلة، ما يعرض أكثر من 602 ألف طفل لخطر الإصابة بشلل دائم وإعاقة مزمنة.
وأشار البرش خلال حديثه لـ«عُمان» إلى أن هذا المنع يعطل تنفيذ المرحلة الرابعة من حملة تعزيز الوقاية من شلل الأطفال، ويهدد بتفشي المرض بين الأطفال الذين لم يتلقوا جرعتي اللقاح الأساسيتين.
وأضاف أن قطاع غزة يحتاج إلى توفير الجرعتين عبر الفم لكل طفل، خاصّةً مع تفاقم أوضاع التغذية والمياه الصالحة للشرب، ما يضاعف من خطورة التعرض للمضاعفات.
حجر الأساس في حملات التطعيم
في إطار الجهود الدولية والإقليمية، أُطلقت حملة التطعيم الأولى ضد شلل الأطفال في سبتمبر 2024 بعد الإعلان عن أول إصابة مؤكدة للفيروس لطفلٍ عمره عشرة أشهر.
ولفت برش إلى أن الحملة نجحت في تطعيم أكثر من 560 ألف طفلٍ، فيما وصل عدد الأطفال المحصنين في المرحلة الثانية 556,774 طفلاً دون العاشرة، قبل أن ينظم فريقٌ طبي المرحلة الثالثة في فبراير الماضي ويغطي نحو 600 ألف طفل.
وتُعدّ هذه الحملات حجر الأساس في خطط وزارة الصحة لمنع تفشّي شلل الأطفال الذي يُعدّ واحدًا من أخطر الأمراض المعدية.
ورغم النجاحات السابقة، تمثّل المرحلة الرابعة نقطةَ تحولٍ مصيرية: فإما أن تُستأنف شحنات اللقاح وتُمنح للأطفال حقهم في الوقاية، أو أن يعمّ صمتٌ قاتلٌ على أصوات ضحكاتٍ كانت تنطلق من أفواه الأطفال، وتتحوّل إلى صفارات إنذارٍ لصوت أجراس العناية الخاصة والعزلة.
0 تعليق