في مديح الاختلاف .. كيف نحول التنوع إلى أداة استقرار؟!

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

استقر في رُوْع الدراسات الاجتماعية ولردحٍ طويلٍ من الزمن أن التنوع الفائض عن الحد (يقصد به التنوع في سياقات مختلفة: دينية، عرقية، قبائلية...إلخ) هو السبب الرئيس في إضعاف حالات التضامن الاجتماعي. ولعلها نظرة رغم رجعيتها من الناحية المنهجية، إلا أنها ما زالت تعيش في عقل الكثير من الباحثين المشغولين بقضايا المجتمع ومشكلاته. ودون جهدٍ كبيرٍ فمن الواضح أنه تأثير الخَلدونية في البحث الاجتماعي العربي، وفي ذلك تعميمٌ لرأي ابن خلدون في المجتمعات المتعددة والمتنوعة ثقافيًّا، وكيف أنها لا تستقر بسبب هذه الكوزموبوليتانية التي أصابت تَوسُّع العرب في تاريخهم من الجزيرة إلى حواضر العالم القديم، وقد صَرَّحَ برأيه هذا في مقدمته التي شاعت أكثر من كتابه (كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) وقد توارى كل ذلك وراء عنوان مُجْحِف بهذا الجهد العظيم، فنقول: مقدمة ابن خلدون. وهذا أمر آخر، لكن ماذا قال الرجل حول موضوعنا هذا؟ ولماذا استقرت مقولاته بصورة قهرية في الاجتماع العربي؟ يقول صاحبنا في الفصل التاسع من الباب الثالث: «فِي أَنَّ الأَوْطَانَ كَثِيرَةَ القَبَائِلِ وَالعَصَائِبِ، قَلَّ أَنْ تَسْتَحْكِمَ فِيهَا دَوْلَةٌ» وهو قول يشير إلى أن التنوع العرقي أو القبلي يخلق مظاهر للعصبية في الوطن الواحد تؤدي إلى ضعف الدولة وصعوبة استقرارها، وليبرهن على ذلك يقول: «وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافُ الآرَاءِ وَالأهْوَاءِ، وَأَنَّ وَرَاءَ كُلِّ رَأْيٍ مِنْهَا وَهَوًى عَصَبِيَّةً تَمَانَعُ دُونَهَا، فَيَكْثُرُ الِانْتِقَاضُ عَلَى الدَّوْلَةِ وَالخُرُوجُ عَنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ عَصَبِيَّةٍ، لِأَنَّ كُلَّ عَصَبِيَّةٍ مِمَّنْ تَحْتَ يَدِهَا تَظُنُّ فِي نَفْسِهَا مَنَعَةً وَقُوَّةً- صفحة 206».

ووفقًا لهذه الرؤية الخلدونية نسج الكثير من علماء الاجتماع العرب فرضية استعصاء تحقيق التعاون والتعايش، واستقرار الدولة في المجتمعات العربية بسبب أنها متعددة الأعراق ومتنوعة المذاهب والنِّحَل، وفي مقدمتهم علي الوردي (1913م- 1995م) والذي يعود بازدواجية الشخصية في بلاده إلى التَنازُع بين «البداوة والحضارة».

وكذلك بين العصبيات والانتماء الوطني، وكل هذا في رأيه أدى إلى قيام الدولة على التنافر والتَشَظِّي، وهو ما يشكّل أثرًا واضحًا في طغيان مقولة ابن خلدون حول شرطية غياب التعدد ليستقر المجتمع. لكن الحقيقة أن السيسيولوجيا الحديثة أثبتت زيف هذه الفرضية، وقبل أن نعرض لها فإننا أمام حقيقة أكثر وضوحًا وهي أن المجتمعات التي كان ابن خلدون يحلل فضاءها، مجتمعاته هو، ولا تنتمي إلى فضائنا الراهن إلا في تماسات محدودة، مما لا يصح معه اعتماد هذه الرؤية، ناهيك عن تجذيرها الوعي الجمعي لعرب اليوم، إذ إن ذلك جرمٌ ثقافيٌ بالغ الخيبة.

ولعله من نافلة القول الإشارة إلى أن لفظ مجتمع ذاته، يشير بدقة إلى نسق من العلاقات المنظمة، نسق قائم على التضامن والاعتماد المتبادل كما يقول إيميل دوركايم. وهذا يعني أن البنية الرئيسة في اجتماعنا البشري لا تقوم على تمزيع الذات الكلية، وقهرها بالزوال لأنها تشتمل على بنى مركبة، فالصحيح أنه لا قيام لذاتٍ شاملةٍ دون تضامنٍ واعتمادٍ متبادَلٍ يُنْشِئُ هذا الاتساق الشمولي، ويرتفع بالفردي لصالح الجماعي. فهكذا يقوم الاجتماع البشري في أبسط تركيباته، إنه استثمار التعدد في بناء التنظيم الاجتماعي الفاعل فيما يسميه إدغار موران بـ«التنوع الخلَّاق» وهو ذلك قوله إنه لا توجد وحدة حقيقية دون احتضان التعدد، والفكرة الأساسية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي أن التنوع الثقافي أو التعدد بمستوياته المختلفة هو الأساس، فلا تستقر البنية الشاملة إلا إذا قامت على حالات من الاعتراف بالاختلاف، أي أن كل اجتماع إنساني استطاع القيام بعمليات تلخيص وتشميل لكل بُناه فإن الذي قام به أن وفر للهويات الفرعية مداخل آمنة لتضمينها ليس في البنية الأم فحسب، بل في السماح لها بأن تُعيد بناء ذاتها داخليًّا، ومن هنا ينتُج عن ذلك إشراعُ بواباتٍ ضامةٍ للجميع، تستقبلهم بالبِشرِ ذاته، وإن تعددت ألوانهم طالما أنهم ذوات فردية تدخل إلى بيتها الكبير وتضع حمولاتها من الوعي عند بواباته، تفعل ذلك ما دامت مطمئنةٌ إلى سلامة حضورها الثقافي في البنية العامة، وهي بنية وظيفتها إتمام عمليات الاستقطاب والتضمين.

إن مجتمعاتنا العربية وإن تعدد حضورها الجغرافي، وتباينت فضاءاتها الثقافية، إلا أنها لا تزال تعيش حالات متأخرة من فهم ذاتها، فما زالت تعتقد بأن التنوع مشكلة، وأن اختلاف البنى الثقافية تهديدٌ للوحدة، إنها مجتمعات تعيش مخاوفها من الاختلاف فقط لأن المرآة متعددة الزوايا، وقد نبهتنا مدرسة فرانكفورت، والتي نشأت منذ عشرينيات القرن الماضي إلى هذا الأمر، وهي المدرسة التي وضعت على عاتقها إصلاح فضاء الاجتماع الغربي، والبحث في متاعبه، لكن ليس من ناحية الشكوى، كما نفعل، بل بالتحليل المُركِب لمعارفها، وقد أشار أحد أهم أعلامها هربرت ماركوزه في كتابه: «الإنسان ذو البعد الواحد-1964م» إلى أن من أسباب الصراع الاجتماعي هو أُحادية الأفق، ما ينتج أفرادًا يفكرون ضمن نسق مغلق، وهو ما سمّاه بـ One-Dimensional Society. وقد أفلحت هذه المدرسة في إحداث اختراقٍ عميقٍ في الفكر الغربي، والذي من نتائجه أن صاغت نظرية اجتماعية متصلة بجملة العلوم ما أوصلها إلى تشييد رؤية واضحة، ومستعدة لمواجهة الأزمات في الوعي والمجتمع معًا. هذا حالهم، كما نقول دائمًا، وعندما نكتب كثيرًا عن الظاهرة الغربية فليس القصد أن تنكفئ المجتمعات العربية، أو أن ينسجن الفاعلون بالقول فيها على خصوصيات مغلقة، بل هذا عين ما نريد مواجهته بالكتابة، فالذي نقوله بأن لكل ظاهرة فَرَادة، وبالتالي إذا أردنا العمل على تحقيق حالات الاستقرار فينا فإن أولى واجبات البحث والتنظير أن ننطلق من قواعدنا، ولا يعني ذلك الانكفاء على التقليدي والتاريخي، بل أن تكون هذه المرجعيات الغربية هاديًا لنا على مستوى الأدوات وليس النتائج، أن نستفيد من السياق الغربي المتقدم علينا في البحث الاجتماعي، وذلك من خلال آلياته المنهجية، وهي آليات مستقلة كونها نتاجًا تمظهريًّا لحالات البحث الإجرائي، وكم نحتاج في ظل غياب مدرسة لاجتماع عربي إلى الاستفادة من إرث مدرسة فرانكفورت وغيرها من المؤسسات الاجتماعية حتى يستقيم عودنا، ونؤسس مراكز شبيهة توفر لنا مرجعيات معرفية لمواجهة أزماتنا الخاصة، ونفعل ذلك بحثًا في تمتين حضور هذا التنوع والاعتراف بفضله علينا وضرورته لمجتمعاتنا إن صح منها عزم النهوض والتقدم.إن التنوع أصيل في الإنسانية ومصداق ذلك أنه في ديننا الحنيف يقول سبحانه وتعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا» - سورة الحج، الآية (40)، وفي تفسيرها بأن التوازن بين القوى هو سُنّة إلهية لحماية الحياة الاجتماعية من طغيان الأُحادية المنتجة للإقصاء.

إذن الاختلاف والتدافع سمة من سمات التكوين الإلهي للوجود. وفي سورة البقرة- الآية 251: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» وهنا التدافع أداةٌ لحفظ النظام وتحقيق العدل، ومنع الفساد الناجم عن غياب التوازن في التركيب الاجتماعي.

إن حاضرنا الاجتماعي يشير إلى تمترس مقولات الفُرقة والتشتت، وشواهدها مظاهر التفكك وغياب التعاون باعتباره آلية طبيعية في السياق الاجتماعي، ولو فحصنا بصورة محايدة ظواهر الصراع في مجتمعاتنا العربية فإننا لنجدها تعود إلى الرؤية الخلدونية المؤبدة لفكرة أن التنوع يهدد الوحدة، وبالطبع ليست جريرة عبدالرحمن بن محمد الحضرمي (ابن خلدون) بل الأزمة فينا، حين غابت لدينا النظرة التاريخية لتراثنا، وتركب الظن بأن مقولات تنتمي إلى القرن الرابع عشر الميلادي تصلح لإدارة راهنٍ اجتماعيٍّ مختلف التكوين. وكم من المفكرين الآخرين جعلناهم رهائن بسبب اقتطاعنا مقولاتهم وتدمير سياقها على نحو مؤذٍ، كما حدث مع ابن خلدون، ونتحمل تبعات هذا الأذى في صورٍ شتى لمشكلات نواجهها بعقل يخاصم النقد، ووجدان يتمزق بين التراث والواقع، ولا حل لنا سوى الاعتراف بالتنوع الثقافي، وهو ليس اعترافًا فقط، بل تمكين له في السياق، إن المطلوب من هذه المجتمعات أن تثق في تنوعها، وأن تُحسن توظيفه على أساس من تدافع صانع للتوازن، وهذا ما سيخلصها من الجمود الفكري القائل بأن التعدد الثقافي عائقٌ مركزيٌ في بناء الجماعة الثقافية.

إن دعوتنا لصالح بناء مجتمع تعاوني، تبادلي، متماسك الأطراف، تتطلب أن تقوم مؤسساتنا الثقافية بهندسة سياسات إصلاحية، وذلك لأجل استعادة التوازن بين الفردي والجمعي، والحفاظ على وحدة الوعي والوجدان، ولكي تنجو مجتمعاتنا من الفرقة المؤجِّجة للصراع، فإن واجبها إحسان إدارة التنوع الثقافي ما سيحمي وحدتها الوطنية، ويوفر لها أسبابًا للتقدم والنهضة.

وهنا لنبحث عن ابن خلدون الآخر، وليس المؤبد في مقولات زمنه الاجتماعي، ابن خلدون المستقبلي والذي قال: «الإنسان مدنيٌّ بالطبع، لا يقوم كمال وجودِه إلا بالتعاون».

غسان علي عثمان كاتب سوداني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق