حين اختارت الولايات المتحدة والصين أن تلتقيا في جنيف، بعد أسابيع من التصعيد الاقتصادي المتبادل، لم تكن المسألة تتعلق بخفض بعض الرسوم أو استئناف الصادرات المتوقفة، بل بما هو أعمق من ذلك بكثير: أيّ شكل من التجارة يليق بعالم ما بعد العولمة، ومن يملك حق فرض قواعده؟
الجلسات المغلقة التي عُقدت تحت غطاء من السرية بين وزير الخزانة الأمريكي ونائب رئيس مجلس الدولة الصيني في إحدى ضواحي جنيف الدبلوماسية، ليست سوى فصول أولى في تفاوض طويل يتجاوز مسألة العجز التجاري أو نسب الرسوم الجمركية. ما يجري هو تفاوض غير معلن على من يملك حق تنظيم تدفقات التجارة والتكنولوجيا والموارد في نظام دولي يعاد تشكيله وسط تراجع للثقة بين القوى الكبرى.
الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب في الأسابيع الأخيرة ـ فرض رسوم جمركية تجاوزت 145% على الواردات الصينية، والتوسع في استهداف دول أخرى ـ كانت إعلانا واضحا أن واشنطن تعيد تعريف استخدام القوة الاقتصادية، ليس بوصفها وسيلة تنظيم، بل كأداة ضغط تفاوضي حاد. الرد الصيني، في المقابل، لم يكن عاطفيا ولا اندفاعيا، بل بدا أنه منظم في توقيته ومدروس في دلالته.. فقد فرضت الصين رسوما بنسبة 125%، وعززت الصادرات للأسواق البديلة، ثم بعد ذلك جاءت إلى جنيف ومعها أرقام تشير إلى نمو مفاجئ في الصادرات بنسبة تفوق التوقعات بأربع مرات كما تقول التقارير.
هذه الديناميكية ليست جديدة، لكنها باتت الآن أكثر تعقيدا، لأن الطرفين لا يختلفان فقط على الحلول، بل على تعريف المشكلة نفسها. فواشنطن ترى في النموذج الاقتصادي الصيني تهديدا بنيويا لها حيث يقوم على فائض تصديري مموّل جزئيا بدعم الدولة، واستثمار ضئيل في الواردات، ونفاذ محدود للشركات الأجنبية. بكين، من جهتها، ترى في المطالب الأمريكية تدخلا سافرا في مسار اقتصادي سيادي، ومحاولة لمصادرة الحق في التطور الصناعي، بوسائل تقنّعت بلغة السوق.
والهوة بين الموقفين لا تكمن فقط في الأرقام، بل في الفلسفة. الولايات المتحدة تطالب الصين بالتحول إلى «شريك ناضج» في النظام العالمي، لكنها تفعل ذلك من موقع من يُعيد كتابة قواعد اللعبة من طرف واحد. أما الصين، فترى نفسها قد بلغت مرحلة من الثقل السياسي والاقتصادي تجعلها غير مضطرة للامتثال لمعادلات صيغت في عالم أحادي القطبية.
والنتيجة أن مفاوضات جنيف قد تنتج تهدئة مؤقتة أو تجميدا للرسوم خلال فترة تفاوضية، لكنها لن تُعالج المعضلة الأساسية المتمثلة في غياب الإطار المؤسسي العالمي القادر على استيعاب قوى صاعدة، وتنظيم الانتقال من اقتصاد عالمي تقوده دولة واحدة إلى نظام أكثر تعددية، لكنه بلا مرجعية واضحة أو حوكمة مستقرة.
الأسواق من جهتها تتعامل بحذر. المفاوضات مرحّب بها، لكنها لا تكفي لإعادة الثقة في سلاسل التوريد أو تخفيف قلق المستثمرين من احتمالات الانقسام التجاري طويل الأمد. الرسالة التي تصل من جنيف لا تعني أن الصراع التجاري انتهى، بل إن إدارة الصراع باتت هي الشكل الجديد للعلاقات الاقتصادية بين القوى الكبرى.
اللحظة التي يعيشها النظام التجاري العالمي تتجاوز الأزمة المتبادلة إلى كونها لحظة انتقال في هندسة السلطة الاقتصادية. والاختبار الحقيقي لهذه المفاوضات ليس ما إذا كانت ستفضي إلى خفض في الرسوم الجمركية، بل ما إذا كانت ستؤسس لخطاب متوازن يعترف بتحول العالم، ويمنح الفاعلين الجدد مقعدا في صياغة النظام، لا فقط دورا في التكيف معه.
وما لم يحدث ذلك، فإن النظام التجاري العالمي سيظل عرضة للتصدع، مهما حاولت المفاوضات ترقيع شروخه.
0 تعليق