قنابل الاحتلال.. تقتل الصحفي وتبيد عائلته لكنها تعجز أمام قلمه

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مساءٍ ثقيلٍ كالكابوس، جلس الصحفي عزيز الحجار يدوّن ملاحظاته الأخيرة على طرف دفتر ممزق، بينما كان صدى الطائرات لا يفارق سماء غزة. لم يكن يدري أن هذه الليلة ستسجّل اسمه في قائمةٍ باتت الأوسع في تاريخ الصحافة الفلسطينية؛ قائمة الصحفيين الشهداء الذين قُتلوا لا لشيء سوى لأنهم نقلوا الحقيقة.

عزيز الحجار.. قصة النعش الذي وسع العائلة

في منطقة بئر النعجة شمال قطاع غزة، وبين ركام البيت الذي صار نعشًا يسع العائلة، عُثر على جثمان الحجار إلى جانب زوجته نور حمدي العالول وطفليه محمد وأمل، فيما لا تزال طفلته الثالثة فداء ترقد في العناية المركزة تصارع الموت، وربما تسأل عن والدها الذي لطالما ضمّها حين كانت تخاف من أصوات القصف.

كان عزيز يحمل الكاميرا أكثر مما يحمل الطعام، ويطارد الحكايات تحت النار أكثر مما يركض لأجل النجاة. كتب مرارًا أن «الصحفي لا يملك خيار الصمت»، حتى حين يُحاصَر بيته، وحتى حين يُستهدف على بابه.

عرفته شوارع غزة كمن لا يتأخر عن واجبٍ إنساني. لم يكن موظفًا في مكاتب محصنة، بل عينًا وسط الرماد، وقلبًا ينقل النبض في مدن فقدت نبضها.

رحل عزيز وترك وراءه دفترًا لم يكتمل، وصورًا لم تُنشر، وطفلةً وحيدة تتعلق بذاكرته كما تعلقت بالأمل.

خمسة في ليلة

في ليلة واحدة فقط، ليل الأحد الموافق 18 مايو 2025، ارتقى خمسة من الصحفيين الفلسطينيين في مناطق متفرقة من قطاع غزة، 4 منهم رفقة عائلاتهم. وكأنّ الاحتلال قرّر أن يُعلن عن حملة تصفية إعلامية جماعية، تتجاوز القذائف إلى رسائل الترهيب الصريحة.

من خان يونس إلى الشمال، ومن دير البلح إلى مخيمات اللجوء، توزّعت النيران، لكنها أصابت هدفًا واحدًا: إسكات الكلمة الحرة.

في منطقة قاع القرين شرق خان يونس، قُصف منزل الصحفي عبد الرحمن العبادلة أثناء استضافته لدى عائلة أبو مهند عاشور، فاستُشهد وسط ركام البيت، ولم تنجُ سوى جدران تحتفظ برائحة القلم.

وفي دير البلح، سُجلت واحدة من أفجع المجازر: استُهدفت الصحفية نور قنديل، منسقة الفعاليات في «مقهى الثريا للإعلام الاجتماعي»، برفقة زوجها الصحفي خالد أبو سيف، وابنتهما الصغيرة، حين قُصفت شقتهم في حي بشارة. لم يكن أحدهم يحمل كاميرا وقت القصف؛ كانوا فقط يحاولون أن يمنحوا طفلتهم نومًا دافئًا.

أما في خان يونس، قرب المستشفى الميداني الكويتي، فكانت الخيمة التي احتمى بها الصحفي أحمد الزيناتي وزوجته نور المدهون وطفليهما محمد وخالد، شاهدة على الجريمة. قُصفت الخيمة ليلًا، وتحولت أجساد العائلة إلى رماد. لم يُعثر عليهم دفعة واحدة؛ بل جُمعت بقاياهم من تحت الرمال المتناثرة، في مشهد يليق فقط بحكايات المجازر.

سياسة اغتيال

بصوت متقطع يعلوه البكاء، قالت الصحفية دعاء سليم، إحدى زميلات نور قنديل في «مقهى الثريا الإعلامي»، لـ«عُمان»: «نور لم تكن فقط زميلة.. كانت نبض المكان. امرأة ناعمة، هادئة، لكن جريئة في الحق. كانت تكتب مشروعًا توثيقيًا عن تأثير الحرب على الأسر الإعلامية في غزة، وقالت لي يومًا: (أخشى أن يُنشر هذا المشروع بعد أن نُصبح نحن القصة). لم نضحك حينها.. خيّم علينا صمت غريب».

وتابعت مي: «قبل أيام من اغتيالها، أرسلت لي تسجيلًا صوتيًا تقول فيه إن صغيرتها باتت تخاف من صوت الطائرات، وأنها تخشى أن تموت وهي تحتضنها. هذا تحديدًا ما حدث. استُهدفت شقتها في دير البلح بينما كانت تجلس مع زوجها وابنتها. لم تكن تحمل كاميرا، ولم تكن تغطي حدثًا ميدانيًا.. كانت فقط أمًّا تحاول النجاة».

وختمت مي شهادتها بصوت مخنوق: «ما فعله الاحتلال لم يكن استهدافًا عشوائيًا. لقد عرفوا من هي نور، وعرفوا أين تسكن، وقصفوا بيتها ليُسكتوا مشروعها، وصوتها، وكل شيء فيها».

أرقام دامية

في تصريح خاص لـ«عُمان»، قال إسماعيل الثوابتة، مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: «منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في 10 أكتوبر 2023 وحتى فجر 18 مايو 2025، وثقنا استشهاد ما لا يقل عن 222 صحفيًا وصحفية داخل قطاع غزة. من بينهم 68 استهدفوا وهم داخل منازلهم، مع عائلاتهم، خارج أي تغطية صحفية ميدانية».

وأضاف الثوابتة: «الاحتلال تعمّد في الأشهر الأخيرة تنفيذ عمليات تصفية جسدية منظمة بحق الصحفيين داخل بيوتهم، عبر استهدافات دقيقة ومدروسة، تطال مساكنهم حتى دون إنذار. إنهم يقتلون الصحفي مرتين: مرةً برصاص القصف، ومرةً بإبادة من أحبهم أمام عينيه».

وأكد أن هذا السلوك يمثل «جريمة مكتملة الأركان ضد الصحافة الفلسطينية، وضد حرية الرأي والتعبير في واحدة من أحلك مراحل العمل الإعلامي في العالم المعاصر».

بالاعتماد على أحدث المعطيات الرسمية الصادرة من مكتب الإعلام الحكومي في غزة، أصيب أكثر من 409 صحفيين بجراح متباينة، بعضها بلغ حدّ الإعاقة وفقدان الأطراف، في حين وثّقت الجهات المختصة اعتقال الاحتلال الإسرائيلي 48 صحفيًا ممن تم التعرف على هوياتهم، في ممارسات تعكس تصعيدًا متعمدًا لاستهداف الكوادر الإعلامية جسديًا وميدانيًا.

استهداف ممنهج

من جهته، قال الدكتور تحسين الأسطل، نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، في تصريح خاص لـ«عُمان»: «ما يجري ضد الصحفيين في غزة لم يعد مجرد استهداف ميداني عارض، بل تحوّل إلى سياسة تطهير إعلامي ممنهجة».

وأضاف: «إسرائيل تُدرك تمامًا من هم الصحفيون المؤثرون، وتُتابع نشاطهم وتحركاتهم عبر تقنيات متقدمة، منها الذكاء الاصطناعي، وتُدرجهم ضمن بنك أهدافها، وهو ما أشارت إليه القيادة العسكرية الإسرائيلية في أكثر من تصريح ضمني».

وأوضح الأسطل: «حين يقتل الاحتلال صحفيًا في بيته، وأمام أطفاله، فهو لا يستهدف شخصًا بعينه، بل يوجّه رسالة واضحة للجميع: لا أحد في مأمن. لا بيت يحمي، ولا عائلة تُعفي، ولا مهنة تُشفع».

موتٌ معلن

لم تعد مهنة الصحافة في غزة مجرد وظيفة، بل أصبحت شهادة ميلاد للموت المؤجل. الكاميرا هناك لا تُرفَع لتصوير مشهد، بل لوداع صاحبها. والمؤسسة الإعلامية لم تعد مقرًا للنشر، بل تُنعى كوحدة إسعاف أخيرة.

في ليلة واحدة، فُقد خمسة. وربما سيُفقد آخرون. لأن الحقيقة في غزة تُكتب بالدم، وتُبث من بين أنقاض البيوت، وتُدفن تحت الخيام.

لكن، ورغم ذلك، ما زال هناك من يرفع الكاميرا، ويكتب، ويوثق، ويرفض الصمت. لأن الكلمة، في فلسطين، لا تُقصف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق