جرائم الإبادة تستهدف تدمير منشآت الصحة الإنجابية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أكثر من 150 ألف امرأة حامل يواجهن ظروفا مأساوية في قطاع غزة وفق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من أكتوبر عام 2023م.

مقابلات مع النساء الحوامل أجريت في صالة الانتظار التابعة لمركز المصري الطبي للنساء والتوليد وعلاج العقم والذي يعمل في شمال قطاع غزة، أفادت خلالها النساء اللواتي قصدن المركز للاطمئنان على حملهن بأنهن بالكاد يحصلن على الرعاية الطبية اللازمة في ظل توقف غالبية المراكز الطبية عن استقبالهن، نتيجة خروجها عن الخدمة جراء استهدافها من الطيران الحربي الإسرائيلي.

مريم عبدالجليل البالغة من العمر (34) عاما، بدت ملامحها شاحبة وعيناها غائرتان، قالت «حاولت اتباع طرق عديدة من أجل تنظيم النسل، خصوصًا في ظل استمرار الحرب والنزوح، كنت أعاني مع أطفالي الصغار، لا طعام متوفر والأمراض منتشرة، رغم ذلك عندما علمت أنني حامل، اختلطت مشاعري ما بين الفرح والخوف بسبب الظروف غير الإنسانية التي نعيشها، ولكنني قررت أن أصارع من أجل حماية نفسي وجنيني من الخطر منذ الشهور الأولي للحمل زرت الطبيب في إحدى النقاط الطبية الموجودة في مخيم النزوح للحصول على بعض النصائح الطبية اللازم اتباعها.

«أضافت مريم لم أتناول الدجاج واللحوم والبيض والفاكهة والحليب منذ بداية الحمل، غالبا ما يضطر زوجي للسير مسافات طويلة للبحث عن طعام صحي لي ولأطفالي، ولكن بسبب قلة المال وعدم توفر المواد اللازمة لا ينجح في ذلك، فيعود دون طعام في كثير من الأحيان، مما يضطرني لتناول طعام المعلبات التي حصلت عليها من المساعدات، هذه المعلبات مليئة بالمواد الحافظة، أعلم أن لها أضرارا صحية بالغة علي وصحة أطفالي ولكنني لم أجد سواها».

وفيما يتعلق بالحصول على مياه الشرب في ظل قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بقصف العديد من آبار المياه الصالحة للشرب تقول مريم إنها تحاول شرب المياه المعدنية التي تضطر غالبا لشرائها من الباعة المتجولين، أو الحصول على بعضها من المساعدات الإنسانية، إلا أنها أصيبت بوعكة صحية أثناء حملها وبعد فحصها تبين بأن تلك مياه منتهية الصلاحية وتحتوي على نسبة كبيرة من الأملاح التي تسبب مشاكل كبيرة في المسالك البولية.

قبل ختام حديثها قالت مريم «كل الظروف التي أعيشها أثناء الحرب تضعني تحت ضغط نفسي شديد وتوتر طوال الوقت وهو ما ينعكس سلبا على صحتي الشخصية وصحة الجنين، أبكي بحرقة في كثير من الأحيان وأدعو الله ألا يموت جنيني وأن تكون ولادتي نهارًا لأنني أخاف كثيرًا كلما حل الظلام ليلًا».

وتشتكي النساء الحوامل بأنهن يحصلن على الحد الأدنى من الطعام والماء مع استمرار إغلاق المعابر وارتفاع أسعار المواد الغذائية إن وجدت، بالإضافة إلى قلة توفر وسائل النظافة الشخصية، موضحات بأنهن غالبا يعانين من الأمراض المعدية والإصابة بالبكتيريا والجراثيم في ظل عدم توفر بيئة صحية مناسبة لوضعهن الخاص الذي يتطلب رعاية خاصة وغذاء صحي ملائم.

يُذكر أن معظم المراكز الطبية الخاصة برعاية النساء الحوامل قد تعرضت إلى تدمير كبير من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.

هذا وفي سياق متصل صدر تقرير أممي في شهر مارس 2025، أفاد أن إسرائيل دمرت جزئيا القدرة الإنجابية للفلسطينيين في غزة وخلص تحقيق للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ارتكبت أعمال إبادة في قطاع غزة عبر التدمير الممنهج لمنشآت الرعاية الصحية الإنجابية.

وأفادت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بأن إسرائيل هاجمت ودمّرت عمدا مركز الخصوبة الرئيسي في القطاع الفلسطيني وفرضت حصارا بشكل متزامن ومنعت المساعدات بما في ذلك الأدوية اللازمة لضمان سلامة الحمل والإنجاب ورعاية المواليد.

وذكر التقرير أنه تم تدمير أقسام ومستشفيات الولادة بشكل ممنهج في قطاع غزة، إضافة إلى «مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب»، العيادة الرئيسية للخصوبة المخبرية في غزة.

وقال إن مركز البسمة تعرّض للقصف في ديسمبر 2023، مما ألحق -وفق

تقارير- أضرارا بنحو 4 آلاف جنين في عيادة كان يتردد عليها ما بين ألفين و3 آلاف مريض شهريا.

إلى جانب ذلك، فإنّ النساء الغزيات ما زلن يعانين خلال الحرب من نقصٍ في المستلزمات الطبية والتحاليل المخبرية، كما حدث مع سلوي سالم (43) عامًا، إذ كانت تنتظر بفارغ الصبر مراجعة الطبيب بعد أن شعرت بأعراض غريبة كانت عبارة عن مغص ونزيف حاد وألم أسفل البطن.

لم تتمكن سلوى من إجراء الفحوصات اللازمة لها بعد أن قام الطبيب بفحصها، وعندما سنحت لها الفرصة أخيرًا للوصول إلى مستشفى الشفاء، اكتشفت إصابتها بورم كبير داخل الرحم وهو ما استدعى تدخلًا طبيًا عاجلًا. ولكن حتى في تلك اللحظة الحرجة، لم تكن الأوضاع الطبية في صفها، فقد ضرب القصف المستشفى، وانهارت أعصابها من الرعب، واضطرت لإجراء الجراحة وسط برد المستشفى القارس ونوافذه المكسورة.

تقول سلوى وقد ظهرت علامات التعب والهزال عليها «ظننت أن معاناتي انتهت بعد إجراء عملية استئصال الرحم، لكن الألم عاد بقسوة، ليصاحبني ألم شديد للغاية، المستشفيات معظمها مغلقة، بعد رحلة شاقة مشيًا على الأقدام بين المستشفيات، اكتشف الأطباء أن الورم أصاب المبيض، بعدها بدأت رحلة معاناة جديدة للحصول على العلاج الكيماوي، بعد تدمير مستشفى الصداقة التركي الوحيد الخاص بعلاج الأورام في قطاع غزة، حصلت على تحويلة طبية لكن المعبر مغلقًا حتى هذه اللحظة

أمام المرضى، لذلك ما زالت معاناتي مستمره حتى هذه اللحظة».

لم تتوقف معاناة سلوى عند هذا الحد، إذ ما زالت تعاني من دوخة وضعف حادّ بسبب سوء التغذية وانعدام الأدوية، وكانت بحاجة إلى فحص بالرنين المغناطيسي لتقييم حالتها، لكن الجهاز الوحيد في غزة أُحرق خلال اقتحام مستشفى الشفاء؛ ما جعلها تُعاني من الآلام حتى وقتنا هذا.

الدكتور أحمد المصري، وصف أوضاع النساء اللواتي يتلقين خدمة التصوير والولادة داخل المركز خلال الحرب قال «تأتي معظم الحوامل وعلامات التعب والهزال تبدو عليهن، فيما تكشف الفحوصات المخبرية أنهن يعانين فقر الدم وسوء التغذية ومشاكل صحيّة، وتنخفض قدرتهن على الحركة ويجدن صعوبة في الولادة بشكلٍ طبيعي، فيما تضطر النساء الحوامل الحضور باكرًا في الصباح إلى المركز بسبب حالة الخوف في الليل، وعدم القدرة على الحركة في ظل نقص وسائل المواصلات، نحن نعيش أوضاعا غير عادية، ولا يمكننا أن نفعل أي شيء إلا أن نحاول إنقاذ حياة النساء وأطفالهن».

وأضاف الطبيب بشيء من الحسرة «للأسف معظم النساء يعانين من الإجهاض وفقد الأجنة في فترة الحمل، بسبب ضعف بنيه أجسامهن لعدم حصولهن على التغذية الكافية في فترة الحمل».

هذا وقد أشارت تقارير صادرة عن وزارة الصحة أن النساء الحوامل يواجهن ظروفا كارثية، وتتضاعف معاناتهن جراء تدمير المنظومة الصحية، لا سيما الخدمات المخصصة للصحة الجنسية والإنجابية، وحرمانهم من الوصول إلى مراكز الرعاية الصحية بعد إخراج المستشفيات والمراكز والعيادات والصيدليات عن الخدمة، وتعطل المختبرات والأجهزة الطبية، وقطع الكهرباء ومنع دخول المواد المخبرية.

وتحرم النساء من الحصول على الخدمات المتعلقة بأمراض النساء المرتبطة بالحمل، ورعاية ما قبل الحمل وما بعد الولادة، والوقاية من العنف، خاصة في ظل شح السلع والبضائع الأساسية، وعدم قدرتهن على توفير المواد الغذائية الغنية بالبروتينات، والحصول على المكملات الغذائية، وتوفير مواد التعقيم ووسائل منع الحمل، وتوفير أدوات خاصة بالاحتياجات اللازمة للحفاظ على الكرامة الشخصية من مستلزمات النظافة وغيرها. كما تعيش النساء الحوامل في قطاع غزة، في ظل الحرب

المتواصلة منذ أكثر من عام ونصف، ظروفًا لا يمكن تصوُّر صعوبتها، فإضافةً إلى الموت والرعب والجوع والفقد والنزوح، تبدأ صعوبات أخرى منذ الشهر الأول للحمل، إذ لا رعاية صحية، ولا اختبارات دم، ولا فحوصات للتأكد من سلامة الجنين، ولا مياه صالحة للشرب، في بيئة عيش قد لا يتوفر فيها حتى فراش للاستلقاء، ما يعرِّض أكثر من 52 ألف امرأة حامل في القطاع للخطر، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية. ومنذ اندلاع الحرب، ارتفعت معدلات الولادة المبكرة والقيصرية.

وارتفعت معدلات الإجهاض ووفاة الأجنة بنحو 20%. وتؤكِّد «يونيسيف» أن أطفال آلاف النساء اللواتي من المقرر أن يلدن في القطاع معرَّضون لخطر الموت.

في ظلِّ انهيار النظام الصحي، تجري عمليات الولادة، حتى القيصرية منها، دون تخدير أو مسكنات ودون أدنى التجهيزات الأساسية، ما أكده بيان للمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ومركز الميزان ومؤسسة الحق، واضطُّر الأطباء أحيانًا إلى إجراء عمليات ولادة مبكرة بينما كانت الأم تحتضر، ليولد العديد من الأطفال أيتامًا.

لا تقتصر مخاوف النساء على الولادة ذاتها، بل تتجاوزها إلى محاولة الحفاظ على حياة أطفالهنَّ الرضع، إذ ثمة تهديد أكبر يعرِّض حياتهن وحياة أطفالهن للخطر، ويجعل الرضاعة الطبيعية مستحيلة، يتمثل بالجفافِ نتيجة شحِّ المياه، وبالفقرِ الغذائيِّ الحادِّ الذي يواجهه نحو 95% من النساء الحوامل والمُرضعات، وأكثر من 90% من الأطفال بين 6 أشهر و23 شهرًا، وفقًا لـ«يونيسف»، إلى جانب الغلاء الفاحش في أسعار المستلزمات الصحية، مثل الفوط الصحية النسائية وحفاضات الأطفال، ما اضطَّر النساء إلى استخدام الورق والكارتون وخرق القماش المستهلَك، وفاقم المعاناةَ والمخاطر.

في هذا السياق أشارت البيانات الصادرة عن مركز الميزان لحقوق الإنسان إلى أنّ توقف عمل المختبرات الطبية ونقص معدات التشخيص أدى إلى ارتفاع نسبة الولادات عالية الخطورة. كما تعذر كثيرًا خلال الحرب إجراء التحاليل الأساسية للأمهات مما زاد من المضاعفات، إضافة إلى ذلك فإنّ هناك حاجة إلى حوالي (10.3) مليون فوطة صحية شهريًا لـ(690,00) امرأة ومراهقة في غزة. وجاء في تقرير صدر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان حول «تدهور الأوضاع الصحية والمعيشية في ظلّ استمرار

حرب الإبادة الجماعية وانعكاسها على الصحة الإنجابية» ازدياد خطورة الوضع مع معاناة 46,300 امرأة حامل من سوء التغذية ونقص الغذاء.

وأشارت البيانات الواردة في التقرير الحقوقي إلى أنه من بين 1,000,000 امرأة وفتاة نازحة، كان هناك 155,000 امرأة حامل ومرضع دون رعاية، وفي ظلّ تدمير 80% من المستشفيات ونقص الأطباء والمعدّات الطبيّة كان إجراء عمليات قيصرية ضرورية أمر مستحيل؛ مما أدى إلى إجبار النساء على الولادة في الشوارع والملاجئ، ودون أدنى المعايير الصحية.

يتسبب هذا الأمر في كثيرٍ من الانتهاكات التي تعرضت لها النساء في تهديدٍ لصحتهن الإنجابية، ومنها رفع معدّلات الولادات المبكرة مما أدى إلى تراجع أوزان المواليد الجدد إلى أقل من 2.5 كغم بسبب سوء التغذية لدى الأمهات.

كما لم تزل تعيش أكثر من 557,000 امرأة في غزة تحت وطأة انعدام الأمن الغذائي، ما يجعل الحمل والولادة في القطاع ليس مجرد تجربة إنسانية، بل صراعًا يوميًا من أجل البقاء.

وتشير الإحصاءات المحلية إلى ارتفاع حالات الولادة المبكرة نتيجة الضغط النفسي والتغذية السيئة، كما تبين أنّ 70% من النساء اللواتي ولدن في الأشهر الأخيرة لم يحصلن على متابعة طبية قبل الولادة.

في ظلّ الانهيار الحادّ للخدمات الصحية، وغياب الرعاية الطبية الأساسية، أصبحت الولادة في غزة محفوفة بالمخاطر، بالتزامن مع تدمير المستشفيات وتقييد وصول الإمدادات الطبية، تضطر كثير من النساء للولادة في ظروفٍ غير آمنة داخل الملاجئ أو المنازل؛ مما يعكس واقعًا صحيًا متدهورًا يستدعي تدخلاً عاجلاً.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق