حين نفتح دفاتر الأيام ونقلب صفحات الذاكرة، نجد أنفسنا أمام مشاهد حيّة من علاقات تركت فينا أثرًا لا يُنسى.
بين ثنايا الذكريات، تبرز وجوه أولئك الأصدقاء الأوفياء الذين أضاءوا دروب حياتنا، وألهموا أرواحنا بالدفء والسكينة، و غرسوا في قلوبنا بذور المحبة والعطاء، فتجذرت ونمت لتصبح شجرة وارفة تظلل حياتنا بثمار الذكريات الجميلة المليئة بلحظات الفرح والامتنان.
كيف لنا أن ننسى صديقًا بادر إلى مد يد العون ساعة الحاجة، أو إنسانًا صدوقًا وقف بجانبنا في أحلك الظروف؟
إن هؤلاء الأصدقاء بتصرفاتهم الصادقة ودعمهم اللامشروط، شكّلوا جزءًا من بنياننا النفسي، وأسهموا في تعزيز صمودنا أمام ضغوط الحياة.
وعلى الجانب الآخر، هناك من تركوا جراحًا غائرة في نفوسنا، حين اختفوا وقت الشدة، وأداروا ظهورهم في ساعات العسر، فليس كل من فتحنا له أبواب قلوبنا كان جديرًا بأن يكون صديقا لنا،
ولكن رغم ألم هذه الخيبات، فإن الجانب الإيجابي الكامن فيها لا يخفى، إذ أن الأشخاص الذين زرعوا فينا الألم قد علّمونا دروسًا عميقة لا تقدّر بثمن، في قوة التحمّل، وفن التسامح، واكتشاف منابع القوة الذاتية.
ومع مرور الوقت، تتلاشى وجوههم من الذاكرة، وتختفي تفاصيلهم، لكن تبقى التجربة محفورة كصخرة راسخة من دروس الحياة.
أما الصديق الحقيقي، فهو أشبه بجذور الشجرة العميقة؛ لا تراه العين ولكنه يمسك الأرض بقوة، مانحًا الشجرة ثباتها أمام الرياح العاتية.
هو السند الخفي الذي يغذيك صمتًا، ويدفعك للأمام حين تشعر بأنك توشك على السقوط.
وبين رفاق القلوب النقية والوجوه الصادقة، نستعيد إحساسنا بالأمان، ونجد لزوارق الفرح مرافئ ترسو بها، لندرك أن الخير لا يزال نابضًا في قلوب البشر، رغم كل خيبات الطريق.
وتُعدّ الصداقة الوفية إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الرفاه النفسي للفرد.
فكما يشير مفهوم الرفاه النفسي وفقا لعلم النفس الإيجابي بأنه الشعور بالتوازن الداخلي والرضا عن الذات والحياة، وأن وجود أصدقاء أوفياء يمد الإنسان بشبكة دعم عاطفي تمنحه الأمان والطمأنينة.
إن الأصدقاء الأوفياء هم أصدقاء حقيقيون لا يقتصر دورهم على مشاركة اللحظات السعيدة فحسب، بل يكونون سندًا في أوقات الأزمات، مما يسهم في تعزيز الشعور بالسيطرة على التحديات والضغوط الحياتية.
وقد أكدت العديد من الدراسات في علم النفس الإيجابي أن الروابط الاجتماعية القوية تُمثل عاملًا محوريًا في بناء الصحة النفسية وتعزيز الشعور بالرضا. كما أكدت أن الأفراد الأكثر سعادة يمتلكون شبكات صداقة عميقة، و أن الدعم الاجتماعي من أهم مؤشرات الرفاه النفسي.
فالصداقات الحقيقية تخفف من آثار الضغوط، كما أن جودة الصداقة هي مفتاح الشعور بالرضا والراحة النفسية .
وهكذا، تلتقي الحكمة الحياتية مع الأدلة العلمية لتؤكد أن الصداقة الحقيقية ليست مجرد ارتباط عاطفي، بل دعامة أساسية لاستقرار النفس وازدهار الروح.
فالأثر الطيب الذي تتركه يظل مضيئا عبر الزمن، ينير لنا دروب الحياة مهما أثقلتها التحديات، ويزرع في قلوبنا الأمل حين تضيق بنا السبل.
* أستاذة في علم النفس التربوي
0 تعليق