في زوايا هذا الوطن التي كانت دوماً ملاذاً للسكينة والروح، ارتفع مؤخراً صوت غريب لا يشبه الأذان، ولا يحمل طمأنينة الدعاء.. بل كان صوت كسرٍ يشق الصمت.خبر انتشر كالنار في الهشيم: مجموعة من الطلاب أقدموا على العبث بأحد المساجد في البحرين، فكسروا وخربوا دون أن يدركوا حجم المكان الذي وقفوا فيه أو قدسيته التي يجب أن تُحتَرم.لم تكن الحادثة عابرة، ولا فعلاً عادياً يمكن تجاوزه بجملة «أخطاء مراهقين». لقد كانت صدمة حقيقية، كأنها مرآة تعكس أين وصل بعض من جيل اليوم، وتدعونا جميعاً أن نتوقف ونراجع أنفسنا:ماذا فقدنا في تربيتنا؟ وأي شيء تسلل خفيةً، حتى تجرأ البعض على انتهاك أماكن خُصصت لذكر الله؟إن كسر نافذة أو تحطيم باب مسجد ليس ضرراً مادياً فقط، بل جرحٌ في ذاكرة المجتمع، وطعنة لقيم نشأنا عليها وعشنا بها. بل هو علامة تنبهنا أن بعض المفاهيم بدأت تفقد بريقها في العقول والقلوب.أين تلك اللحظة التربوية التي كنا نأخذ فيها أبناءنا إلى المسجد لا للصلاة فقط، بل لغرس هيبة المكان في نفوسهم، وتعليمهم أن هناك فضاءات يجب أن يُغشى بابها برهبة ومحبة واحترام؟من المؤلم أن تمر حادثة كهذه، في محاولة للتقليل من شأنها تحت شعار «تصرف فردي عابر». ولكن الحقيقة الأعمق أن التصرفات مهما بدت فردية، فهي في نهاية المطاف انعكاس لصورة أوسع تحتاج إلى مراجعة هادئة ومسؤولة.وفي لحظة كهذه، لا بد أن نعود إلى قول الله تعالى:«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا»، «البقرة: 114».آية تحمل في طياتها رسالة ثقيلة: أن المساجد ليست مجرد مبانٍ، بل معالم إيمانية، وذاكرة مجتمعية يجب أن تبقى مصونة في النفوس قبل أن تُصان بالجدران.ما نحتاجه اليوم هو أكثر من إصلاحات ظاهرية. نحتاج إلى أن نزرع في أبنائنا مفهوم القداسة، ليس فقط للمكان، بل للقيم التي تحفظ توازن الإنسان مع ذاته ومجتمعه. أن نُعلّمهم أن الحرية لا تعني العبث، وأن الشجاعة لا تعني التعدي، وأن الجمال الحقيقي يكمن في احترام ما يعجز المرء عن تعويضه إن فقده.هذه الحادثة، رغم قسوتها، فرصة ثمينة لإعادة النظر في طريقة بناء وعي الأجيال القادمة.فرصة لنُرسّخ أن الاحترام لا يُفرض، بل ينشأ عن قناعة وحب. أن التربية ليست أوامر، بل سلوك يُعاش. وأن القدوة الصالحة أقوى من ألف محاضرة.وبصراحة.. المسجد الذي كُسر يمكن ترميمه، وقد يعود أجمل مما كان.لكن ما يحتاج إلى الترميم الحقيقي، هو تلك المسافة التي اتسعت بين بعض أبناء المجتمع وبين احترام رموزه وقيمه.فهل نملك جميعاً، كلٌّ من موقعه، شجاعة أن نبدأ بإصلاح هذه المسافة، وأن نحمي قلوب أبنائنا من أن تتبلد تجاه كل ما هو مقدّس وجميل؟ فالجدران مهما تهدمت، تُبنى من جديد.. لكن القيم إن تصدعت، فبُطء الترميم قد يكلفنا أكثر مما نتصور.
حين بكى المسجد..

حين بكى المسجد..
0 تعليق